لقد أصبح واضحاً وبشكل متزايد أن قصة الاقتصاد العالمي هي حكاية عالمين تظهر في أحدهما نذر الخسارة والتشاؤم فيما تطالعنا في الجانب الآخر بوادر الأمل والتفاؤل. ففي الوقت الذي يصعب فيه العثور على أخبار جيدة في المعاقل التقليدية للثروة والقوة وهي أميركا وأوروبا واليابان نشهد اليوم انبثاق عالم جديد تمثله الصين والهند وإندونيسيا والبرازيل حيث يواصل الاقتصاد نموه، وحيث الحكومات لم تثقل كاهلها الديون الكبيرة والمواطنون مازالوا متفائلين بالمستقبل، هذا التباين بين أغنياء وفقراء الأمس قد يسجل منعطفاً تاريخياً حاسماً وبداية لمرحلة جديدة وغير مسبوقة. فعلى مدى الستة أشهر الماضية جُردت الكثير من الأفكار التقليدية حول الاقتصاد من مصداقيتها، كما فُندت العديد من المزاعم والنظريات التي دأب الخبراء على طرحها بثقة زائفة دون أن يعني ذلك أن الخبراء الآخرين الذين لوحوا بالسيناريوهات الأكثر تشاؤماً كانوا أوفر حظاً في قراءة الاقتصاد العالمي لإغفالهم العوامل التي من شأنها تعقيد تنبؤاتهم. فقبل ستة أشهر عندما تهاوت أسواق الأسهم حول العالم وبدا النظام المالي الأميركي على حافة الانهيار اعتقد العديد من المراقبين أن الدول الناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية التي شهدت اقتصاداتها نمواً ملحوظاً ما كانت لتستفيد لولا صادراتها إلى أوروبا وأميركا، وبأن تلك الدول تفتقر إلى عوامل قوة داخلية ومستقلة عن الاقتصادين الأوروبي والأميركي وهي بالتالي ستنهار بأسرع مما يتوقع المتفائلون، وستعاني أكثر من الاقتصاديات المتقدمة، لأنه في جميع الأحوال، يقول هؤلاء المراقبون، تنتمي الدول الناشئة إلى العالم الثالث ولا يمكن مقارنتها بنظيراتها في الشمال. لكن أمراً لافتاً حصل في الطريق نحو الكساد العالمي، فما أن انحسرت حالة الذعر التي تملكت الأسواق العالمية بعدما اتضح أن العالم لن ينهار بدأت الرحلة المذهلة والمتفاوتة في نفس الوقت نحو التعافي والخروج من الأزمة، فقد استعادت سوق الأسهم الأميركية بعد ستة أشهر من الانحدار بعض قوتها لترجع إلى المستوى الذي انطلقت منه في بداية العام، وهو نفس ما حصل لبورصة لندن، بالإضافة إلى الأسهم اليابانية التي صعدت بنحو 7 في المئة. وبدا أن باقي الأسواق العالمية شرعت في النهوض والعمل مجدداً ليرتفع مؤشر شنجهاي الصيني بنسبة 45 في المئة وصعدت سوق الأسهم في الهند بنسبة قريبة وصلت إلى 44 في المئة أما بورصة البرازيل فقد انتعشت بحوالي 38 في المئة تبعتها الأسهم الإندونيسية التي سجلت 32 في المئة كنسبة ارتفاع، وبالطبع لا يمكن الاعتماد فقط على تحسن أداء أسواق الأسهم العالمية لتقييم مجمل أداء الاقتصاد، لكن السبب الذي أدى إلى هذا الارتفاع اللافت يرجع إلى النمو الذي حققته تلك الدول. والحقيقة أننا لا نعدم الدلائل والمؤشرات على هذا النمو حيث شهدت مبيعات السيارات الهندية في شهر أبريل الماضي ارتفاعاً بلغ 4.2 في المئة مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، وفي الصين صعدت مبيعات التجزئة بنسبة 15 في المئة خلال الربع الأول من السنة الجارية، ومن المتوقع أن تحقق الصين معدل نمو يتراوح بين 7 و8 في المئة خلال العام 2009 فيما ستنمو الهند إندونيسيا بنسبة 6 و4 في المئة على التوالي. والواقع أن هذه الأرقام التي حققتها الاقتصادات الناشئة لا تنم فقط عن قوة بل هي لافتة حقاً بالمقارنة مع العالم المتقدم عندما نرى كيف تقلص حجم الاقتصاد الأميركي بنسبة 6.1 في المئة خلال الربع الأخير من العام الجاري وتراجع الاقتصاد الأوروبي بنسبة أكبر وصلت إلى 9.6 في المئة، فيما اليابان بلغت رقماً مخيفاً حدد في 15 في المئة وهو أمر بدأ يقترب من المعدلات الكارثية لثلاثينيات القرن الماضي. ولنجري مقارنة بين العالمين، فمن جهة هناك الغرب بالإضافة إلى اليابان التي تعاني بنوكها من خلل كبير وتئن حكوماتها تحت وطأة الديون المستحقة عليها، فضلا عن المستهلكين الذين يحاولون ترميم موازناتهم المنهارة، وتواجه أميركا حالياً صعوبة في بيع ديونها بأسعار معقولة، كما أن كاليفورنيا، وهي أكبر ولاياتها تتجه نحو الانهيار المالي التام، وسيتجاوز عجز الموازنة الأميركية 13 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، وهو مستوى لم نصله منذ الحرب العالمية الثانية، لذا وبالنظر إلى هذه الأعباء، فإنه حتى لو حصل التعافي لن تستعيد الولايات المتحدة نموها الاقتصادي في المدى القريب، علما أنها أكثر دينامكية من أوروبا واليابان. لكن في المقابل لم تتأثر البنوك في الأسواق الناشئة حيث حافظت على قوتها ومستوى أرباحها، ناهيك عن السلامة المالية للحكومات وعدم تكبدها لديون كبيرة، فالصين مثلا معروفة احتياطاتها المالية الهائلة التي تصل إلى تريليوني دولار، وبعجز في الموازنة لا يتعدى 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، أما البرازيل فقط حققت وخلافاً للجميع فائضاً في الموازنة، كما أن إندونيسيا نجحت في تقليص حجم ديونها التي كانت تشكل 100في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي قبل تسع سنوات إلى 30 في المئة اليوم، وعكس الحكومات في الغرب التي جربت كافة حلولها مازالت تتوفر البلدان الناشئة على خيارات أخرى، فرغم إقدام البرازيل على خفض نسبة الفائدة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، فإن تلك النسبة لم تنحدر عن 10.25 في المئة وهو ما يعني أنه باستطاعتها تخفيضها أكثر في حال ساءت الأمور وتدهور الاقتصاد. ونظراً لكل تلك العوامل يبقى المزاج العام في الدول الناشئة متفائلا إلى حد كبير بسبب آفاق النمو المستقبلية. وبالطبع مازالت الولايات المتحدة أغنى وأقوى دولة في العالم إذ ينتشر جيشها في كل العالم تقريباً، لكن التاريخ يعلمنا من الإمبراطورية الإسبانية في القرن السادس عشر، وحتى الإمبراطورية البريطانية في القرن العشرين، أن القوى الكبرى تبدأ في التراجع عندما تغرق في الديون وتعجز عن تحقيق نمو سريع. فريد زكريا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس تحرير النسخة الدولية لمجلة "نيوزويك" الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"