يبدو أن اختراع شبكة الإنترنت، ومرسلات الأقمار الاصطناعية، وكل ما جادت به عبقرية العقل البشري من هوائل المبتكرات؛ مضارها أكثر من منافعها بكثير على الشعوب الإسلامية، بشرقنا ومنطقتنا، حيث تحولت تلك المبتكرات إلى ساحات معارك كلامية طاحنة، كأنها تهيئ إلى سلِّ السيوف بين شيعة وسُنة. وها هي الدماء سالت، وتسيل، في أكثر من بلد، وضحايا التعصب، والاندفاع العاطفي في ازدياد. ويبدو لب الخلاف في مسألة مات شخوصها الراشدون الأربعة ولم يتجالدوا بالسيوف، محصوراً في مسألة «الإمامة»، ومنهما تتفرع الفروع. ولخطورتها قال فيها «إخوان الصفا»: «كثر فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين العداوات والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدماء، وهي باقية إلى يومنا هذا» (الرسائل، القسم الرابع). وكتب أبو الفتح الشهرستاني (ت 548هـ): «أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة. إذ ما سُلَّ سيفٌ على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان» (الملل والنحل). هذا ما حذر من خطورته «إخوان الصفا» (شيعة في المفهوم العام) في القرن العاشر الميلادي، والشهرستاني (شافعي) في القرن الثاني عشر الميلادي. وفي القرن الحادي والعشرين سمعتُ رجلاً متديناً، من أهل النجف، في مجلس اشتد فيه النقاش حول المسألة نفسها، وهو يرفع كفيه إلى السماء متضرعاً: «يا رب العباد، يا خالق الخلق، ألا أنزلت لنا نصاً واضحاً وشافياً؟ فإن أردتها لأبي بكر الصديق، لسميته بالاسم الصريح، وإن أردتها لعلي بن أبي طالب لقلت إنها له ولأولاده، لكفيتنا يا رب العباد ما نحن فيه...». في البداية سمعت شكوى الرجل من شخص ثالث، ثم ذهبتُ إليه وسألته، فأعاد عليَّ ما قاله في ذلك المجلس، وثبتُ ذلك في كتاب «المشروطة والمستبدة». أرى أن تضرع الرجل وقلقه هذا، لا يقل وضوحاً عما ذهب إليه الشيخ علي عبد الرازق (ت 1966) في شأن الإمامة أو الخلافة في كتابه الشهير «الإسلام وأُصول الحكم» (1925)، وما أتاه بسببه من إقصاء وإيذاء. وهنا لستُ في مقام تخطئة أو تصويب، ما اختلف حوله أهل المذاهب، بقدر ما هي محاولة لتجديد لفت النظر إلى تفاقم الخلاف، وتحوله من رحمة إلى نقمة، وباستخدام أروع مبتكرات ما وصل إليه العقل البشري، فكان يسمع خطبة الجمعة أو المجلس الحسيني مائة أو مائتان، في أكثر تقدير، أما الآن فيذاعان إلى آفاق الأرض جمعاء، إلى قاعد بداره وإلى ساعٍ في عمله. على خلفية ما تقدم، لابد من تدارك خطورة الملاسنات الحادة، الجارية على شاشات الفضائيات ومواقع الإنترنت، بعد المقابلة التي أجرتها إحدى الفضائيات مع إمام الحرم المكي، في مقدمة الشهر السابق. شاهدتُ تلك المقابلة التلفزيونية، وكيف أن مقدم البرنامج أراد الإثارة لبرنامجه، مع أنه ابن هذه الديار التي تتحول فيها الكلمات إلى سيوف وخناجر في لحظة مدمرة. حصل المقدم على مبتغاه، ولعله استراح، وحصّل المديح من رؤسائه، على طريقة برامج كثيرة، تحقق النجاح باشتباك الأيدي بين المتحاورين، فهي لعبة الإعلام، واقتناص فسحة الحرية، وسذاجة الجمهور، إلا أن اللعب بالمذاهب والطوائف، وهو يُبث إلى جمهور متوتر، لا بد أن يُحسب حسابه، فالفتنة يقظة. أخذ المحاور يدور حول ضيفه، ويمطره بالأسئلة، ومنها: ما رأيكم فيمَنْ يشتم الصحابة وفيمَنْ ينقص من قدر الشيخين؟ فأجاب إمام الحرم: «نكفر علماءهم»، أما عامتهم فلا. وقبلها لما سأله عن الموقف من الشيعة، قال: «إنهم مسلمون». وترى البرنامج انتهى بتحقيق تلك الإثارة. بعدها اتصل موقع شيعي بإمام الحرم، فربط مقولته تلك بشاتم الصحابة، إلا أن للحرم المكي منزلته، في قلوب السُنة والشيعة معاً، لذا صعب على الطرف الآخر ذلك التصريح، ولم يُنظر في أمر البرنامج، ولا في الربط بين المقولة وسبب قولها. تحول ما حصل، في ذلك البرنامج، إلى الأتباع، وأخذ كل يدلو بدلوه، بما يجرح الضمائر قبل الأسماع. عشرات الخطباء يبثون نقائضهم للطرف الآخر من على منابر الجُمع. والخطر كائن في المجتمعات المختلطة المذاهب، ولا يُخفى القلق في الساحة العراقية، رغم تجاوز المذهبين المواجهات الجماعية، على مستوى العشائر أو القرى والمدن، وذلك بحلم وجهاء الطرفين. لكن، الخطر مازال قائماً، فالجماعات الطائفية مصممة للنفوذ عبر الحرب بين أتباع أبي حنيفة (ت 150هـ) والشافعي (ت 204هـ) والصادق (ت 148هـ)، مع أن هؤلاء الأئمة لم يتواجهوا حتى بالكلمات، مثلما لم يؤدِ التباين في أمر الخلافة إلى سلِّ السيوف بين الأربعة الراشدين. هناك من تُراث الأقدمين والمعاصرين ما يمكنه سد هذه الثغرة بين الناس، ويقرب مسافة الخلاف. فمَنْ يغفل كلام علي بن أبي طالب في عمر بن الخطاب: «قَوم الأود، وداوى العمد، خَلف الفتنة، وأقام السُنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب...» (نهج البلاغة). لا أجد غافلَ هذه الكلمات يريد المسالمة بين الناس، بل يريدها حرباً إلى يوم يبعثون. والغرض نفسه لمَنْ ينكر فتوى إمام الأزهر الشيخ شلتوت (ت 1963)، وهو أحد أعمدة التقريب بين المذاهب، وتربطه صداقة وطيدة بمرجع زمانه من الشيعة آية الله البروجردي (ت 1961): «إن مذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً، كسائر مذاهب أهل السُنة» (سلسلة رواد التقريب). كذلك لم يتقدم إمام الشيعة في وقته الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954) على تحريم وإلغاء، ما علق بالذاكرة الشيعية العامية من ممارسات العهد الصفوي، إلا وغايته الحرص على المسالمة بين أهل البلد الواحد (العراق)، يوم حرم ممارسة ما يسمونه: «تاسع ربيع وعيد الزهراء» (محاورة الإمام المصلح كاشف الغطاء... مع السفيرين البريطاني والأميركي في بغداد، 1953)، والمعروف بـ"فرحة الزهرة". ولما حذره البعض من خطورة ما يقدم عليه، قال: «إني متوكل على الله تعالى، وأضحي بنفسي، فإن نجحت فلله الحمد والمنة... فصعد المنبر وخطب زهاء ساعتين والصحن (الحضرة العلوية) مشحون بالمستمعين من مختلف الطبقات». فألغى ما كان يستغل المناسبة للإساءة لشخصيات مقدسة لدى الطرف الآخر. على أية حال، الزمن بحاجة إلى أئمة مثل كاشف الغطاء وشلتوت، يتصدون لردع فتاوى القتل، والجدل العقيم، باستدراج الأتباع إلى خلافات الماضي، بعد شحنها بالكراهية. وفي المحصلة لانفع للأتباع بما يجري، وعلى حد قولة بصير المعرة: إنما هي «أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء».