ثمة ظاهرة تفرض نفسها في العالم العربي بكيفية خطيرة تهديدية، يمكن أن تُحدث ثغرة هائلة وعميقة في البنية الثقافية والنفسية والأخلاقية العربية، وذلك على نحو قد يصبح تجاوزها، إن لم يكن قد أصبح، أمراً فائق التعقيد والصعوبة. أما الظاهرة فهي تشكُّل علاقة شرطية متبادلة بين أفول فعل القراءة لدى العرب، وتعاظم وتائر الفقر والإفقار في العالم العربي. ولقد كانت هذه الظاهرة قد بدأت في الإفصاح عن نفسها جدِّياً مع بدايات مرحلة النفط السياسي العربي في أوائل سبعينيات القرن المنصرم. فها هنا انطلقت مجموعة من المشكلات الكبرى والصغرى لتغمر المجتمعات العربية، يداً بيد مع حدوث تحولات بنيوية. وإذا كانت هذه التحولات كثيرة ومتعددة المرجعيات المجتمعية، فإن واحداً منها كان له -وما يزال- نتائج ذات تأثير كبير في معظم المجتمعات العربية، نعني به عملية سقوط وتشظّي الفئات الوسطى فيها. هذه الفئات مارست في مرحلة ما قبل ظهور النفط السياسي، دوراً وظيفياً في تلك المجتمعات تمثل في المحافظة على التوازن المجتمعي بين الأطراف الثلاثة الأعلى والأدنى والأوسط، وإنْ كان قد تضمن حداً معيناً من التنابذ والتعارض وأحياناً التصارع بينها. ويمكن القول إن الطرف الثالث بحكم موقعه الوسطوي القائم على ميسورية مادية اقتصادية وإمكانات للاستنارة العقلية والإنتاج الثقافي، تمكّن من التأسيس لوضع سياسي واجتماعي اقتصادي ابتلع الكثير من حالات الصدام بين الأعلى والأدنى باسم الاعتدال وعدم التطرف، (وهذا بدوره أنتج منظومة قيمية غطّت الأطراف الثلاثة بالمعنيين الإثنين كليهما الإيجابي والسلبي). ويهمنا من ذلك وبحسب علم الاجتماع الثقافي، أن مصادر الإنتاج الثقافي والمعرفي تركزت، خصوصاً، في محيط الوسطويّين، بحيث قاد إلى توسيع رقعة ذلك الإنتاج لتشتمل على إنتاج "الكتاب". نقول ذلك، ونحن نعلم أن هذا الأخير أتى ضمن تطور المجتمعات الحديثة الصناعية باتجاه إيجاد صناعة خاصة بالكتاب مشروطة تكنولوجياً واقتصادياً وثقافياً وغيره. والآن، حين تتساقط الفئات الوسطى (العربية) في سياق إعادة بنْينة معظم المجتمعات العربية على أساس تقاطب الثروة والسلطة بين الأعلى والأدنى، فإنه يتساقط معها كم هائل من الإنتاج الثقافي والسياسي والأدبي...إلخ. إضافة إلى حد ملحوظ من الانحسار في إنتاج "الكتاب الثقافي والسياسي الثقافي". إن أزمة عميقة في صناعة الكتاب، خصوصاً من ذلك النمط، تقدم تعبيراً عميقاً عن أزمة الفئات الوسطى المنتجة والمبدعة للثقافة، وتعبيراً عن أزمة المجتمعات العربية السائرة نحو أمية ثقافية وسياسية ثقافية خطيرة. أما التعبير العمومي الفظيع عن هذه "الأزمة الثلاثية المركّبة" فيقدمه لنا "تقرير التنمية البشرية"، الذي نشرته اليونسكو لعام 2003. ففي هذا الأخير، نجد أنفسنا أمام حالة من "العار" الثقافي والسياسي العربي، الذي يتجلى في نسبة ما يقرأه شخص عربي من الكتب على امتداد عام واحد بالقياس إلى نسبة ما يقرأه شخص إسرائيلي في الزمن المذكور نفسه، (ونحن نأخذ هذه المقارنة بين العربي والإسرائيلي بسبب من خصوصية الموقف الحضاري والاستراتيجي والتاريخي وغيره). فقد جاء في إحصائيات اليونسكو أن شخصاً إسرائيلياً يقرأ 40 كتاباً في العام الواحد، في حين أن شخصاً عربياً واحداً من ثمانين شخصاً عربياً يقرأ كتاباً واحداً. ولا شك أن هذه النسبة تتعاظم لصالح الإسرائيلي، لمجرد أن نسبة القراءة العربية لا تنمو. وهنا، نواجه المعادلة التالية: إن الحالة التي لا تنمو ولا تتطور، تتراجع، وإن ظلت محافظة على موقفها نفسه. تأتي هذه الكلمات، التي نقدمها هنا في سياق إعلان القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009، وكذلك في سياق التردي المأساوي الذي يحيق بـ"الكتاب العربي" وبالإنتاج الثقافي العربي عموماً. لقد تعاظمت الأمية الأبجدية والثقافية العربية. أما الشعار الذي كان مطروحاً في الدوريات الرسمية والخصوصية العربية والقائم على ضرورة اجتثاث الأمية الأبجدية حتى نهاية القرن المنصرم، فقد سقط تحت أعباء تزايد الفقراء فقراً والأغنياء غنى، وتحوُّل الكتاب إلى "بذخ" لا طائل تحته، مع حالة من فساد المدرسة والجامعة والحياة الثقافية العامة، وكذلك مع تحول المثقفين والعاملين في الحقل التعليمي خصوصاً، إلى بؤساء يُصرُّ على أن تُنتزع منهم قيم الحرية والكرامة والكفاية المادية، لأنهم "خطرون".الحفاظ على الشعارات الكبرى الخاصة بالتنمية والتحديث والتقدم لا يبدأ إلا بتحقيق القيم الثلاث على نحو متوازن، وعبر إعادة بناء الفئات الوسطى برؤية علمية، وبكيفية مماثلة تطال المجتمعات العربية عمقاً وسطحاً.