في ورقته التي قدمها لندوة عُقدت في المغرب عام 2001 ، وحملت عنوان "نحو مشروع حضاري نهضوي عربي"، دعا المفكر البحريني د. محمد جابر الأنصاري إلى التركيز على "العلل الثلاث الخطيرة" التي تعيق تقدم مجتمعات العالم العربي! وبعد أن تابعنا حديثه عن "التخلف المجتمعي"، إحدى هذه العلل الثلاث، ننتقل إلى بقيتها. علة المجتمعات العربية الثانية يقول المفكر، "التخلف العقلي - العلمي"، فبموازاة تلك البنية المجتمعية التحتية في القاع الاجتماعي، ترسبت وتكلست بنية ذهنية جامدة في العقل الجمعي للمجتمعات العربية ولدى الكثير من نخبها المثقفة، ويسارع المفكر إلى تبرئة ذمته التحليلية، فيقول: "هذه البنية الذهنية ليست نتيجة تخلف عقلي عضوي أو وراثي أو دائم في العقل العربي، وإنما هي نتاج تاريخي انحطاطي مرت عليه قرون طويلة من التجمد الثقافي والفكري سادت خلالها حرفية النص على حركية العقل المجتهد، وأُعطيت القداسة للنقل، أياً كان، على حساب العقل". ونتج عن عصور الانحطاط هذه وأثقالها الفكرية، أن بنيتها العقلية المجتمعية باتت غير قادرة على استيعاب "عقلانية العصر الحديث ونهضاته وثوراته الفكرية والعلمية والتقنية". وتشاؤم د. الأنصاري أعمق، بخصوص هذه التجربة التاريخية "المتكلسة" للعقل العربي: "إن مثل هذه الذهنية لا يمكن أن تستوعب التقدم العلمي والتقني الذي يشهده العالم منذ قرون، وإن تخلفها العلمي هو توأم سيامي لتخلفها العقلي البنيوي". ثالث علل العرب، في تحليل د. الأنصاري بعد "التخلف المجتمعي" و"التخلف الذهني"، هو "التخلف الأخلاقي"، فمجتمعاتنا تحكمها ازدواجية أخلاقية متغلغلة، وثمة "فجوة رهيبة بين مظاهر السلوك الخارجي ولوازمه، وبين حقيقة السلوك الداخلي والمشاعر والأفكار الذاتية التي لا تتنفس غالباً إلا في الخفاء. فثمة أخلاقية للعلن وأخلاقية أخرى مناقضة للخفاء. أخلاقية العلن هي أخلاقية الجماعة المتجبرة في "فضائلها" المنسوبة إلى إرث معنوي مستمد من الآباء والأجداد، وأخلاقية الخفاء هي السلوكية الحقيقية والفعلية للفرد المكبوت. وهكذا يتحتم على الإنسان أن يحيا حياتين: حياة لغيره وحياة لنفسه، حياة لغيره يرضى بها الآخرون من الأقوياء والمتسلطين عليه باسم مختلف مبررات التسلط والاستبداد الاجتماعي أو السياسي أو الفكري، وحياة يحاول فيها أن يكون هو نفسه ما استطاع، وأنى له أن يكون وقد سُدت عليه منافذ الهواء والضوء، فتحولت النفسُ العربية المكبوتة إلي هرة تموء في الظلام، كل طاقاتها وحيويتها مكرسة للتوفيق بين الحياتين النقيضتين. هذه "الأزمة الأخلاقية" كذلك ليست تخلفاً جينياً أو وراثياً، كما يؤكد المفكر، بل هي ناجمة عن تخلف تاريخي مجتمعي نسبي مرتبط بظروفه وعوامله وقابل للتغيير. وهنا يأخذ د. الأنصاري على أيديولوجية الثورة العربية القومية، أنها لم تلتفت إلى الجوانب الأخلاقية. وكما لاحظ الباحث محيى الدين صبحي في كتابه "تشريح الانحطاط العربي"، فإنه "لم تحدث ثورة أخلاقية تقترن بالمد القومي". ولعل مقتل تجربة التحديث والثورة العربية كان في هذا الإهمال بالذات. فحين استلمت الأحزاب القومية السلطة، يقول صبحي: "انغمست في مباهج الحكم حتى غدت معظمها قدوة للفساد الاجتماعي والسياسي. وانحطت أخلاق العمل أمام شعار الكسب السريع. ولم يتوقف الفكر العربي إلى اليوم وقفة جادة عند الأخلاق. وهذا الانحطاط العربي الشامل والمتزايد نتيجة وسبب لاطراد الانهيار الخلقي، وفقدان الوازع الداخلي والرادع الخارجي لمحاسبة المسؤول". ونجم عن هذا الإهمال، يستنتج د. الأنصاري، أن صار للعربي في تصوره السياسي كيانان، وطني وقومي. ويمكن لنا أن نشرح تصور د. الأنصاري للأزمة الأخلاقية، أن الإنسان العربي بات يعيش في عالمين أو يدور في مدارين. أحدهما وطني محلي قُطري ملوث يومي مغضوب عليه لا بأس بأن يرتكب الإنسان فيه كل الموبقات، وهذا هو الوطن والكيان السياسي التي يعيش العرب في أكثر من عشرين كياناً منها، كلها مُحتقرة في اللاشعور العربي، وأحياناً كثيرة في الشعور والعلن! والثاني وطن عربي قومي مثالي واحد من المحيط إلى الخليج، نقي طاهر، لا ينبغي لأي "مواطن عربي" أن يقترب منه أو يعيش فيه حتى كفكرة، إلا وهو طاهر اليد والجسد، نقي النفس، مستقيم السريرة! ويمكن لنا أن نغوص أكثر في تجليات هذا الثنائي الوطني - القومي الذي لا يوفيه د. الأنصاري حقه من الشرح والأمثلة، ولا يغوص في أبعاده، رغم أن الثنائي من أكبر عوائق تحديث الفكر والواقع العربي! فالوطن والكيان الوطني والقطري، لا قيمة له في موازين الأخلاق السياسية العربية، إزاء "الوطن العربي" و"الكيان القومي". وعندما تراجع "الحلم القومي"، حل محله فوراً "الحلم الديني" ممثلا ربما في "الوحدة الإسلامية"، أو في "الخلافة" أو "النظام الإسلامي". ولا زال الكاتب والباحث والمحلل في الإعلام والثقافة السياسية العربية قادراً على قول ما يشاء عن دولة الكويت، أو جمهورية مصر العربية أو المملكة العربية السعودية أو الجمهورية التونسية أو مملكة البحرين... الخ. فهذه كلها "دول وأنظمة وكيانات"، مهما كان دورها في تشكيل الواقع العربي، وتحديد مسيره ومصيره، ولكن من منّا يكتب شيئاً عن "الوحدة العربية" أو "الوحدة الإسلامية" أو "دولة الخلافة"، بل حتى عن الدولة العثمانية دون أن يفكر مرتين فيما هو مقدم عليه؟ ونعود إلى د. الأنصاري، لنتابع معه كيف يُخرج العرب والفكر القومي من هذا المأزق الأخلاقي، أو الجانب الخلقي، أو ما يسميه بـ"الفراغ الأخلاقي" التي وقعت فيه مشروعات التحديث العربية؟ يتناول د. الأنصاري النموذج الديني، ويتساءل المفكر البحريني هنا: "هل تبشر الصحوة الإسلامية الجديدة بصحوة أخلاقية، باعتبار الدين في المجتمع العربي، مصدر الأخلاق"؟ نراه يتردد ويبدي شكوكه ويقول: "لكن المراقب المحايد للظاهرة الإسلامية يجد أيضاً أن السلوكية الأخلاقية الحقيقية الصادقة، ليست من السمات البارزة لأحزابها وقادتها، وإن كان لا يخلو منها بعض شبابها". ويضيف: "إن مراعاة المحرمات والمحظورات الشرعية وإقامة الفرائض ليست سوى عنصر واحد من عناصر السلوكية الأخلاقية المتكاملة". فثمة اليوم حملة إسلامية واسعة ضد المخالفين والمعارضين، يقودها الإسلاميون ضد خصومهم. ولكن من النادر يقول د. الأنصاري "أن نستمع إلى أصوات إسلامية هادئة تدعونا لصحوة أخلاقية شاملة. ويكاد الإسلاميون يكررون تقصير القوميين حيال المسألة الأخلاقية.. أين هي الفلسفة الأخلاقية للصحوة الإسلامية الجديدة في ضوء تطورات العصر؟ فشبابنا اليوم ممزق بين معسكرين في فندقين متواجهين: معسكر انخرط في الحياة الغربية السطحية دون ضوابط أخلاقية وسلوكية، ومعسكر وضعوه بين النقاب واللحى، فتصوّر أن هذه هي مكارم الأخلاق ونهايتها". ويستعين د. الأنصاري بالأحاديث النبوية ليثبت نقطته، ويؤكد دعوته الأخلاقية. فمما يورده أبو داود في سننه: "إن المرء ليدرك بحسن خلقه ما لا يدركه الصائم القائم". وتراث العرب والمسلمين زاخر بالقيم والأخلاقيات والدعوة للاستقامة والاعتدال والحلم والأمانة، وذم الغش والانحراف والتعصب والتظاهر بالصلاح والفلاح.. ولكن هات من يلتزم!