ما بين عام 1938ووقتنا الحاضر، شهدت مملكة تايلاند سلسلة من الانقلابات العسكرية تخللتها موجات من الاحتجاجات والمظاهرات العنيفة، وعدد من الحكومات المدنية المنتخبة قصيرة العمر تمت الإطاحة بها المرة تلو الأخرى من قبل المؤسسة العسكرية. وبرغم أن تايلاند يتواجد فيها واحد من أسرع الاقتصادات نمواً في دول العالم النامي خلال معظم الفترة التي نشير إليها، فإن الحكم العسكري الاستبدادي طويل الأمد ترك تراثاً من الإذعان لسلطة العسكر ولاستغلال السلطة المطلقة والتغاضي عن الإجراءات القانونية السليمة. وخلقت تلك الأوضاع أيضاً طبقة سياسية تحركها دائماً الرغبة في إخضاع موارد الدولة لتحقيق الثروة الشخصية، وشبكات التبعية، فأصبح المجتمع التايلاندي قابلا باستخدام النفوذ السياسي لتحقيق الثروات الشخصية كممارسة عادية. إثر أزمة 1997 المالية في تايلاند، فإن الصدمة التي نتجت عن الانهيار الاقتصادي المفاجئ، ولدت المزيد من التطلعات الشعبية لحدوث إصلاحات سياسية من شأنها خلق المزيد من المسؤولية والالتزام على الموظفين العموميين. وفي تلك المرحلة تبنت تايلاند دستوراً جديداً كان قد تم تأجيل العمل به لفترة محدودة، وفي الوقت نفسه وعد الدستور الجديد بتقوية الاستقرار السياسي وبإزالة مركزية اتخاذ القرار، وبتقوية سيادة القانون، وبإخضاع السياسيين والموظفين الرسميين للمراقبة، وبحماية الحريات الشخصية والمدنية. لقد كان ذلك الدستور نقطة تحول واعدة تأمل الكثيرون بأن تؤدي إلى تعميق استقرار السلم الاجتماعي، وتحسن من جودة الحكم في البلاد، وتؤمن معاملة عادلة للجميع بغض النظر عن المستوى الاجتماعي. وبقراءة التاريخ السياسي المعاصر لتايلاند يتضح بأنها من أكثر الدول تغييراً لدستورها خلال مدد قصيرة ومتقاربة، رغم أن نظام الحكم الملكي ذاته يعد من أقدم وأعرق نظم الحكم الملكية في العالم. وتعد هذه الحقيقة متناقضاً يصعب على أي مراقب خارجي تفسيره، ولا يفهم ضرورات ذلك أو مبرراته سوى التايلانديين أنفسهم. وفي أعقاب ما حدث من عنف شديد خلال شهر أبريل 2009، قد تكون تايلاند مقبلة على دستور جديد آخر، ولو حدث ذلك، فإن تايلاند تريد من الدستور الجديد أن يحسم مجموعة أمور جوهرية تعيد الأوضاع الأمنية والسلم الاجتماعي إلى طبيعتها، أي أنه لابد، وأن يعالج عدداً من القضايا الجوهرية التي من دون حلها لن تستقر البلاد. أولى تلك المسائل هي مفهوم الدستورية ذاته، فهذا المفهوم لابد وأن تتم تقويته، ولأن تايلاند ملكية دستورية تم تدشينها عام 1932، فإن تداول السلطة، اقترن دائماً بسن دستور جديد، كل دستور صدر حتى الآن جاء وهو يعكس وجهات نظر وآراء القادة الجدد، لكنها فشلت جميعاً في توفير الأساس لإيجاد نظام حكم مستقر. والواقع أن تايلاند شهدت منذ عام 1932 إلى الآن، سبعة عشر دستوراً وهي مقبلة على الثامن عشر، وفي المتوسط يشكل ذلك دستوراً جديداً كل خمس سنوات. ويلاحظ في هذا السياق أن آخر الدساتير التي وضعت كان القائمون على صياغته يحاولون جعله أكثر استقراراً ومصداقية، وقد سمح بمراجعته بعد مضي كل 5 سنوات، لكن في عام 2002 أثارت التحفظات في داخل المجتمع السياسي حول نوايا رئيس الوزراء المخلوع "شيناواترا"، المخاوف من أن إعادة فتح ملف إصلاح الدستور من شأنه أن يؤدي إلى الدفع بالبلاد إلى المزيد من الحكم الفردي وليس العكس، وبأن تتواجد فرص تؤدي إلى إقرار التعديلات التي كان يقترحها رئيس الوزراء السابق. ورغم أن الدستور المعمول به حتى الآن يختلف عن غيره من المواثيق السابقة من حيث أنه يحاول أن يتطلب الشفافية والمسؤولية من القادة المنتخبين، إلا أنه بالتأكيد لم يتمكن من الصمود أمام الضغوط التي مارسها عليه نظام الحكم الذي أطيح به عام 2006. وفي اعتقادنا أن الدستور الحالي كان قد أطيح به عملياً وبسهولة في سبتمبر 2006، عندما تدخلت المؤسسة العسكرية واستولت على السلطة وأطاحت بالنظام المنتخب آنذاك. لذلك يمكن القول بأن الدستورية التايلاندية كان يمكن أن تكون أفضل حالا وأكثر قوة، لو أن الاهتمام تركز على إصلاح الدستور القائم والبناء عليه، لأنه يمكن أن يعتبر أفضل الدساتير التي سنت حتى الآن منذ تبني الملكية الدستورية في البلاد، فهو يعالج العديد من الجوانب التي تحظى بشعبية واسعة لأنها تقدم العديد من المعايير التي تحفظ أسس المساءلة والمسؤولية والمساواة، وتعزز الشرعية في البلاد. لكن يبدو أن تايلاند شأنها في ذلك شأن العديد من بلاد العالم النامي، يوجد بها العديد من الساسة الذين يفهمون كيف يطوعون الدساتير والقوانين لخدمة مصالحهم الشخصية وليس مصالح أوطانهم وشعوبهم.