في خطابه الذي ألقاه تخليداً لذكرى الجنود الأميركيين الذين سقطوا في ساحات المعارك في 25 مايو الجاري بمقبرة "أرلينجتون" الوطنية، قال الرئيس الأميركي أوباما: "لا يسعني إلا الشعور بالتواضع كقائد أعلى لأحد أفضل القوات المقاتلة في العالم"، ويبدو من خلال هذا الإطراء الذي خص به قواته المسلحة، أن أوباما يدرك في ظل الحربين اللتين يخوضهما الجيش الأميركي، في أفغانستان والعراق، فضلا عن الأزمات المحتمل اندلاعها في مناطق أخرى، الحاجة الملحة للتعاون مع القادة العسكريين، لاسيما في أفغانستان حيث الحرب متعثرة والوضع مترد. وقد أحدثت مساندة أوباما لتوصية وزير الدفاع، روبرت جيتس، باستبدال الجنرال "ديفيد ماكيرنان" بقائد آخر للقوات الأميركية في أفغانستان هو الجنرال "ستانلي ماكريستال"، تململا لدى المراقبين الذين يتابعون الجهود الأميركية في أفغانستان، وبخاصة بين الديمقراطيين من جناح اليسار الذين توقعوا أن يسارع أوباما إلى سحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، وقد منحوه أصواتهم على هذا الأساس بعدما تبينت لهم رغبة الجمهوريين في تمديد الحرب والتركيز على الخطاب الأمني من جهة والحاجة إلى مواصلة الحرب على الإرهاب من جهة أخرى. ولعل ما أزعج الديمقراطيين بشكل واضح الترحيب الذي قوبلت به بعض سياسات أوباما الخارجية من قبل الجمهوريين، بل حتى بعض "المحافظين الجدد" الذين رأوا في إكماله للمجهود الحربي في أفغانستان وانسحابه التدريجي والمدروس من العراق، تحقيقاً لنبوءاتهم وتبريراً لسياسات الإدارة السابقة. وأخشى ما يخشاه الديمقراطيون الذين يدعمون أوباما أن ينشغل بإكراهات الحرب في أفغانستان وضغوط تحقيق النصر التي قد يمارسها عليه العسكريون والخصوم السياسيون، فضلا عن مخاوف تردي الوضع الداخلي في باكستان، وينسى المشاكل الأميركية الداخلية وأجندته الإصلاحية، فيحرق رصيده السياسي ويقضي على فرص فوزه بولاية رئاسية ثانية. فلا شك أن انغماس أوباما في المعضلة الأفغانية ومحاولاته المستمرة لتهدئة الساحة الداخلية في باكستان ومنع تدهور الوضع الأمني... سيؤثر سلباً على أدائه في الجبهة الداخلية، وقد يعيق تطبيق إصلاحاته التي سبق أن أعلن عنها خلال حملته الانتخابية؛ مثل التغطية الصحية، والتعليم، والطاقة، وإعادة تأهيل البنية التحتية. والحقيقة أنه إذا كانت من مقارنة يمكن أجراؤها بين الوضع الحالي الذي يعيشه أوباما وبين تجارب سابقة، لاستحضرنا فوراً تجربة الرئيس "ليندون جونسون" وتبنيه المأساوي للحرب الفيتنامية، فقد ورث جونسون الحرب من سلفه كنيدي بعد اغتياله في عام 1963، وما أن حصل جونسون على تفويض الشعب الأميركي في انتخابات عام 1964 التي حقق فيها فوزاً ساحقاً، حتى انكب على تنفيذ وعوده ببناء "مجتمع عظيم" ينهي حالة الفقر والتمييز التي طالما عانت منها شرائح واسعة من الأميركيين، وترجع بجذورها إلى قيام الجمهورية. وقد تعهد أيضاً باستخدام مهارته في التأثير على الكونجرس لتنفيذ مخططه وانتشال أميركا من مشاكلها المزمنة. لكن رغم أدائه الجيد في البداية وتحقيقه لبعض النجاحات، لاسيما في علاقته مع الكونجرس الذي مال إلى أجندته الإصلاحية، فقد سقطت أوراقه الكبرى ضحية الحرب في فيتنام التي كانت تمر وقتئذ بأحلك مراحلها وأكثرها دموية. فحرصاً من جونسون على عدم الظهور بمظهر أول رئيس أميركي ينسحب من حرب خارجية، وتحرّجه من أن يسجل عليه التاريخ هذه السابقة، ضاعف وقادتُه العسكريون عدد القوات الأميركية في فيتنام من 16 ألفا إلى 500 ألف، ومع مرور الوقت وتوالي سقوط الضحايا في صفوف الجيش، انقلب الرأي العام الأميركي على الحرب وأطلق العنان لمظاهرات حاشدة ستُدخل البلاد في مرحلة من الاضطرابات دامت عقداً من الزمن. وفي عام 1968 بعدما ذاع خبر هجوم "تيت" الذي شنه الشماليون، أصيب جونسون بإحباط شديد، فقرر عدم الترشح لولاية ثانية، وانكفأ على نفسه إلى أن توفي منكسراً في عام 1973. ومع أنه من الصعب تخيل سقوط أوباما في فخ جونسون وانتهاجه لنفس أسلوبه في تصعيد الحرب، إذ أن أميركا ببساطة لا تملك حالياً جيشاً يصل إلى نصف مليون جندي، إلا أن اختيار الجنرال "ماكريستال" ليشرف على القوات الأميركية في أفغانستان يمثل قراراً جريئاً هدفه تعزيز المجهود الحربي لأميركا في أفغانستان مع ما قد يصحب ذلك من احتمال تزايد عدد الضحايا من الجنود واستياء الرأي العام من ذلك، لاسيما أن أميركا لم تُشفَ تماماً من تجربة فيتنام المريرة وما زالت المخاوف من تكرارها كامنة في الوعي الجماعي الأميركي. والمعضلة الكبرى بالنسبة لأوباما والجنرال "ماكريستال" أن الحرب في أفغانستان لا يمكن كسبها بالقوة العسكرية فقط ما لم تُبذل جهود أكبر لتدعيم حكومة مدنية فعالة وقادرة على توفير الأمن والخدمات الضرورية للشعب الأفغاني، وما لم يتم الحد من تجارة المخدرات المنتعشة حالياً والتي تكفل التمويل للعناصر المتمردة. وحتى لو تحسن الوضع نسبياً في أفغانستان، بسبب التغيير في قمة القيادة العسكرية الذي أحدثه أوباما، تبقى هناك معضلة أخرى لا تقل خطورة يجسدها الوضع الملتهب في باكستان، فما لم تتمكن الحكومة الباكستانية من استعادة سيطرتها على كامل أراضيها وانتزاعها من "طالبان" وإخماد الاضطرابات الإثنية في بلوشستان... فإنها مهددة بالانهيار. ويأتي ذلك في وقت تفيد فيه بعض التقارير أن باكستان بصدد الزيادة في تصنيع الأسلحة النووية تحسباً لأية حرب مع الهند. والمشكلة في باكستان أن القادة السياسيين المنتخبين ما زالوا إلى حد اللحظة عاجزين عن بسط سيطرتهم التامة على المؤسسة العسكرية المترددة بين التركيز على خطر التشدد الديني الذي تمثله"طالبان" وبين الانصراف إلى الخصم التقليدي متجسداً في الهند. ولو نحّت باكستان جانباً مخاوفها المعهودة تجاه جارتها الجنوبية، لأمكنها إلحاق الهزيمة بتنظيم "طالبان"، بل والتأثير الفعال في أفغانستان بما يسهل مهمة الجنرال "ماكريستال". وفي هذا السياق يمكن القول إن مستقبل أوباما السياسي وحظوظه في الترشح لفترة ثانية تعتمد بشكل كبير على إدارته للحرب في أفغانستان والوضع في باكستان وقدرته على الخروج منهما بأقل الخسائر.