الآن وقد انقشع الغبار عن موكب جولة البابا بنديكتوس السادس عشر في الأردن والضفة الغربية وإسرائيل، بدأت تظهر نتائج تلك الجولة. ولعل أهم وأخطر هذه النتائج هي أن البابا لم يرضِِ أحداً. إسرائيلياً، عندما تحدث عن ضحايا النازية، تحدث عن اليهود الذين ماتوا. وتجنّب استخدام كلمة قُتلوا. والموت شيء والقتل شيء آخر. وعندما أشار إلى عدد الضحايا من اليهود، قال "الملايين" ولم يذكر الرقم اليهودي "المقدس" للعدد وهو ستة ملايين. وفي ذلك إشارة رمزية فهمها الإسرائيليون جيداً واغتاظوا لها كثيراً. فالأسقف روبرت ويليامسون الذي فرض عليه الحرمان الكنسي لأنه شكك في هذا الرقم، ولأنه أنكر وجود أفران الغاز في معسكرات الاعتقال النازية، رفع البابا الحرمان عنه قبل زيارته لإسرائيل مما أثار ردّة فعل صهيونية عارمة. ولما طالب البابا الإسرائيليين بتنفيذ اتفاق 1993 الذي ينص على وضع ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية في القدس وبيت لحم تحت إشراف الفاتيكان، رفضت الحكومة الإسرائيلية الاستجابة بحجة أن الكنيست -البرلمان الإسرائيلي- لم يمرر الاتفاق حتى الآن! ثم إنه عندما طالبه الإسرائيليون بوقف إجراءات تطويب البابا الأسبق بيوس الثاني عشر قديساً من قديسي الكنيسة الكاثوليكية، بحجة أنه تواطأ مع النازية ضد اليهود، أو بأنه لم يقم بما كان يفترض أن يقوم به لمساعدة اليهود، اعتبر البابا الطلب تدخلا في شؤون الكنيسة. وقد عكست الصحافة الإسرائيلية عدم الرضا عن البابا وعن زيارته من خلال التركيز على أمرين أساسيين: الأمر الأول: ألمانيّة البابا. فالإسرائيليون يعتبرون أن النازية هي ثمار عقلية ألمانية، وليست مجرد ظاهرة عابرة قامت بها حركة سياسية. والأمر الثاني هو مسيحيّة البابا. فالإسرائيليون يعتبرون أيضاً أن تعاليم الكنيسة ضد اليهود كانت هي السبب وراء ثقافة الكراهية التي دفعوا ثمنها سلسلة من الاضطهادات الممتدة عبر فترات زمنية طويلة، وفي أماكن ممتدة من روسيا شرقاً وحتى المملكة المتحدة غرباً. ولذلك كان الإسرائيليون يريدون اعترافاً من البابا، يعقبه اعتذار منه أيضاً، بما يصفونه بمسؤولية المسيحية في جرائم الإبادة! أما الفلسطينيون فقد انتقدوا البابا لأمرين أساسيين أيضاً: الأمر الأول: أنه عندما تحدث عن حقوقهم، تحدث عن حقهم في وطن، ولم يتحدث عن دولة. إلا أنه بعد مراجعات قامت بها الكنيسة المحلية، أعلن تأييده وتبنّيه لمشروع الدولتين. الأمر الثاني: أنه تحدث عن السلام من دون أن يربط السلام بالعدل كما كان سلَفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني يردد دائماً. إذ ما قيمة السلام مع الاحتلال؟ وأي سلام يمكن أن يقوم إذا لم يقم على العدل؟ ثم ما هي أسس العدالة التي يجب توفرها أساساً للسلام الفلسطيني- الإسرائيلي، والعربي- الإسرائيلي؟ من المعروف أن العدل قيمة مطلقة. أما السلام فهو قيمة نسبية. بمعنى أن السلام يكون وليد تسوية يتم التوافق عليها بين المتحاربين، على قاعدة تنازل من هنا، وتنازل من هناك، ومن ثم تفاهم على معادلة جديدة للتعايش بسلام. أما العدل فقضية لا تقبل المساومة ولا تتماشى مع النسبية. فالفلسطيني مثلا يؤمن بأن حقه في فلسطين يشمل كل أرض فلسطين من البحر إلى النهر. وإذا استرجع كل هذه الأرض تتحقق العدالة، ولكن لا يكون هناك سلام. أما الإسرائيلي المستقوي بتفوّقه العسكري وبالدعم السياسي الذي يتلقاه من العالم، فهو يؤمن بأن هذه الأرض هي هبة من الله له(!؟) وأن قبوله باقتطاع أي جزء منها للفلسطيني هو انتقاص من حقه. وبالتالي فإن القبول بدولة فلسطينية ولو على جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة، قد يحقق السلام ولكنه لا يحقق العدالة. ومن هنا فإن السلام العادل فلسطينياً هو أن تعود كل فلسطين إلى أهلها وإلى أصحابها الشرعيين. والسلام العادل إسرائيلياً هو اغتصاب كل الأرض الفلسطينية وتهويدها تحقيقاً للوعد الإلهي المزعوم! ولكل ذلك فإن "السلام العادل" هو شعار غير واقعي ولكنه مجرد غلاف سكري لعلاج مرّ. لقد أبدى البابا بنديكتوس السادس عشر نوايا حسنة لإصلاح ذات البين داعياً للسلام من غير أن يطرح نفسه وسيطاً. وهو في الحسابات الأخيرة رجل دين وليس رجل سياسة. وبصفته رجل دين مسيحياً، بل رجل الدين المسيحي الأول في العالم، فإنه يؤمن بقول السيد المسيح "طوبى لصانعي السلام" ولكنه يعرف أن صناعة السلام خاصة في الشرق الأوسط تحتاج إلى ما هو أكثر من جهود البابا. إنها تحتاج إلى أميركا وروسيا وأوروبا والأمم المتحدة معاً. وحتى هذه القوى الكبرى منفردة ومجتمعة حاولت وعجزت، وهي لم تزل تحاول وتفشل. البابا يعرف ذلك، ويعرف أن لنواياه حدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها. ولا يستطيع أن يترجمها. ولذلك فقد كان مجرد داعٍ للسلام وليس صانعاً له، ليس لأنه لا يريد، ولكن لأنه لا يستطيع أن يعطي مما لا يملك. فهو لا يملك لا القدرة على التسوية أو الحل ولا القدرة على تحقيق السلام، فكيف بالسلام العادل؟ إن كل ما يملكه هو الصلاة والنوايا الطيبة. ولكن ذلك لا يحرّر أرضاً، ولا يعيد حقاً، ولا يرفع ظلماً. لقد قدم البابا أحسن ما عنده. وهذا الحسن لم يرضِ أحداً. فاليهود يريدون تهويده عنصرياً. والمسلمون يريدون أسلمته حقوقياً. اليهود يريدونه أن يتبنى موقفهم بإدانة البابا الراحل بيوس الثالث عشر الذي يتهمونه بالتواطؤ مع النازية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. والمسلمون يريدونه أن يتبنى موقفهم في إدانة الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون وكان آخرها الجريمة الجماعية التي كانت غزة مسرحاً لها. اليهود يريدون من البابا أن يعتذر لهم عن ماضيه الشخصي عندما كان عضواً في حركة الشبيبة الألمانية، وهي الحركة التي أنشأتها النازية الهتلرية، على رغم أنه عندما انضم إلى تلك الحركة كان عمره 16 عاماً، وكان انضمامه إليها قسرياً وليس اختيارياً.. ثم إنه لم يدم طويلا إذ إنه التحق بمدرسة لاهوتية وانصرف منذ ذلك الوقت المبكر إلى دراسة اللاهوت. والمسلمون يريدون من البابا أن يعتذر لهم عن سوء وصفه للإسلام في المحاضرة سيئة السمعة التي ألقاها في إحدى الجامعات الألمانية ونقل فيها عن إمبراطور بيزنطي من العصور الوسطى ادعاءه أن الإسلام والعنف صنوان، وأنه لم يأتِ بحديد سوى استخدام العنف. وعلى رغم أن البابا أعلن مراراً أنه لا يتبنى القول المنقول، وأن هذا القول لا يعبّر عن رأيه، فإن المسلمين -أو بعضهم على الأقل- يعتبرون أن ذلك لم يكن كافياً، وأنه لابد من الاعتذار الواضح والمباشر والعلني. وليس هذا كل شيء. فاليهود يريدون من البابا ليس فقط أن يكرّس تبرئتهم من دم المسيح، ولكنهم يريدون منه أيضاً أن يكرس بشكل أو بآخر إدانة المسيحية باضطهاد اليهود وبتحميلها مسؤولية "المحرقة". والمسلمون يريدون من البابا ليس فقط الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وبحقه في أن تكون له دولة على أرضه، ولكنهم يريدون منه إدانة الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم، وإدانة المستوطنات التي أقاموها ويقيمونها على هذه الأرض، وفوق ذلك إدانة الانتهاكات الإسرائيلية للمواقع الدينية الإسلامية في القدس الشريف. ولكن البابا ليس حاخاماً يهودياً، وليس شيخاً مسلماً. فلا هو إسرائيلي ولا هو فلسطيني. إنه غير ذلك تماماً. بل هو عكس ذلك تماماً. إنه رأس الكنيسة الكاثوليكية التي تعتبر نفسها رأس المسيحية والمؤتمنة عليها. إنه خليفة القديس بطرس وحامل رسالته. طبعاً، لا يستطيع البابا أن يكون كما يريده اليهود، أو كما يريده المسلمون. فهو لا يمكن أن يكون، ولا يستطيع أن يكون إلا نفسه.. وقد جاءت جولته لتعكس في نتائجها هذا الواقع. فهو لم يرضِ أحداً.. ولعله لم يرضِ حتى نفسه!