لم يكن مستغرباً أن تقوم إيران بمنع العراق من مواصلة تنظيف شط العرب من الزوارق والسفن الغارقة والألغام المزروعة من أيام الحرب الأخيرة التي انتهت باحتلال بلاد الرافدين. فطهران تتصرف منذ سقوط نظام صدام على أساس أن العراق لم يعد سوى "بوابة خلفية" لها، وساحة مفتوحة لتصفية حساباتها مع الأميركيين، وورقة ذات جدوى في التفاوض معهم على برنامجها النووي، بل رهينة في يد السياسة الإيرانية، لن تفرج عنها الآن، وربما لا تعتزم الإقدام على هذه الخطوة، حتى لو رحل المحتل الغربي، لأنها تخشى من أن تتطور الأمور وتنتهي إلى وصول نظام معادٍ لإيران إلى سدة الحكم في العراق، أو على الأقل غير راضٍ عن هذا الشكل المخل من العلاقة بين دولتين جارتين. لقد سبق لإيران أن اختطفت زوارق وجنوداً عراقيين من شط العرب في 14 يناير 2006، كانوا يعملون على اعتراض سفينة تهرب نفطاً في هذه المنطقة، وها هي تكرر سلوكها الضاغط على العراق والمستهين به، لتثبت للجميع أنها باتت اللاعب الأول والأساسي على الساحة العراقية، وتبرهن على أن إقدام الولايات المتحدة على احتلال العراق، إنما كان خدمة جليلة لصالح إيران، التي استمرت طيلة السنوات الخمس الماضية تضحك بكل ما أوتيت من طاقة على التهكم من كلام بوش وهو يتحدث عن تحرير العراق وانتصار أميركا. فلم يكن هناك ما يمنع بوش من مواصلة ادعاءاته حول تحقيق نصر في العراق، لكن من المعتقد أن الرجل كان يرى العكس تماماً حين يجلس إلى نفسه أو ينظر ملياً في المرآة أو ينصت إلى أي مستشار عاقل ممن يحيطون به أو يمعن النظر في يوميات الحرب في العراق، فيبتلع لسانه، ويستسلم لحزن دفين، لاسيما حين وجد أن كل طريق سلكته بلاده في العراق انتهى إلى إيران، وتيقن من أن واشنطن حققت، من دون أن تدري ودون رغبة منها، كل ما كان يتمناه الخميني، وهو الذي لم يكن يعرف سبيلا آمناً وغير مكلف لتحقيق حلمه هذا. لقد تحدث بوش، قبل رحيله، وفي الذكرى الخامسة لاحتلال العراق، بخطاب مفعم بالحماسة ومفتقد إلى أي مضمون منطقي مقنع، عن "النصر" ودلل على ذلك بأمرين أساسيين هما إسقاط نظام صدام وإضعاف قدرات تنظيم "القاعدة"، لكنه تناسى أمرين أكثر أهمية هما تبدد الأهداف التي رمت الولايات المتحدة إلى إنجازها باحتلال بلاد الرافدين، وفشلها في تقديم نموذج يحتذى به لدول المنطقة كما ادعت قبيل الغزو وأثناءه. ولم تعد إسرائيل أكثر أمناً. ولم تحقق واشنطن الديمقراطية في العراق ليصير قبلة للإصلاحيين العرب، ويؤاخي بين الاحتلال والحرية، فتعبد شعوب المنطقة الطرق والدروب والمسارب تحت أقدام "المارينز"، بل تحول إلى كابوس مرعب، اتخذته الأنظمة الشمولية في المنطقة حجة على استمرارها، ووظفته في تعزيز شرعيتها المجروحة. وإذا كان بوسع "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة أن يلووا أعناق الحقائق ويأتوا بحجج سريعة على أن الإمبراطورية لا تزال مرهوبة الجانب، وأن النفط العراقي بات في متناول يد واشنطن، وإسرائيل أصبحت أكثر أمناً برحيل صدام، فليس بإمكانهم أن يقدموا ما يفند النتيجة العامة التي تقول إن احتلال العراق صب في مصلحة إيران بالدرجة الأولى والأساسية، لأنه قضى تماماً، وإلى مدى لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، على الوظيفة الاستراتيجية التقليدية للدولة العراقية، التي كانت إحدى مهامها لجم إيران وكبح طموحها، أو على الأقل توفير توازن إقليمي حيالها، ورادع لها. وإذا كانت الحرب العراقية- الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات لم تنتهِ بنصر مظفر لطرف على آخر، فإن العراق خرج منها أقوى مما دخل إليها، فظل يحقق الردع المطلوب في مواجهة الطاقة الغضبية والتوسعية للثورة الإيرانية. نعم تأثر هذا الدور كثيراً بمغامرة ومقامرة صدام غير المرغوب فيها وغير المحسوبة بغزو الكويت ومحاولة ابتلاع دولة مستقلة، لكن العراق ظل يحلم بترميم الشروخ التي أحدثتها حرب الخليج الثانية التي سميت عملية "عاصفة الصحراء" وسماها صدام "أم المعارك"، ويعود ليمارس وظيفته الإقليمية حيال إيران، خاصة أنها لم تكن خالصة مخلصة لحساب العرب، بل كانت أيضاً لصالح واشنطن، التي ناصبتها الثورة الإيرانية العداء منذ أول يوم لاندلاعها. لكن الأميركيين واصلوا تفكيك هذه الوظيفة بمرور الأيام عبر فرض حصار صارم وظالم ومعاودة ضرب العراق بين حين وآخر، حتى جاء الاجتياح الشامل يوم 20 مارس عام 2003، لينهي هذه الوظيفة المعهودة للدولة العراقية، ويقطع يد صدام التي ظلت ممدودة للأميركيين حتى اندلاع الشرارة الأولى للحرب. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحول العراق نفسه، أو القسط الأكبر منه، إلى جزء من الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، أو على الأقل بات يدور في فلكها طواعية أو تواطؤاً أو لعدم الاقتناع بأن واجب العراق هو لجم إيران، وأن هذا الدور تم لحساب القوى الدولية نفسها، التي لبست في اللحظة الراهنة لبوس الاستعمار العسكري التقليدي، الذي ظن العديد من المفكرين أن العالم قد فارقه. ويرى أصحاب هذا التوجه أيضاً أن واجبات الموقف الحالي تفرض الوقوف إلى جانب إيران ومناصرتها في تصديها للهجمة الاستعمارية الجديدة على منطقة الشرق الأوسط، وعدائها لإسرائيل عدو العرب الأول، في وقت تساعد فيه أطراف عربية قوى الاحتلال الأميركي، أو تباركه، أو تغض الطرف عن أفعاله في بلاد الرافدين، وتستمر في إبداء الارتياح للتخلص من نظام حكم "البعث". وهذه الرؤية كانت ستحتفظ بوجاهتها ومنطقيتها ورسوخ حجتها لو أنها، أولا، لم تتغافل عن عنصر آني مهم يتمثل في عدم وجود ضمانات تحول دون أن يجور الحد الأقصى لأهداف إيران على مصالح العرب الاستراتيجية، وربما يصارعها في المستقبل المنظور، ولو أنها، ثانياً، لم تتجاهل عنصراً آتياً أكثر أهمية يتعلق باحتمالات قيام تنسيق إيراني- أميركي على حساب العرب، حين لا تجد واشنطن مفراً من احتواء إيران بدلا من مواجهتها عسكرياً، وهي مسألة مطروحة في أروقة صنع القرار الأميركية، وإن لم تجد طريقها إلى التطبيق في ظل إدارة بوش فليس هناك ما يمنع من أن تتبناها الإدارات الأميركية المقبلة، سواء كانت "ديمقراطية" أم "جمهورية". وفي حالتي المواجهة أو الاحتواء فإن فقدان العراق لوظيفته التاريخية، المشار إليها سلفاً، سيستمر، لأنه سيتحول إلى ورقة ضغط في يد إيران على الولايات المتحدة إن طرحت الخيار العسكري، وإلى قوة مضافة إلى إيران إن فكرت واشنطن في استمالتها. وهذان الموقفان يؤكدان بما لا يدع مجالا لشك أن آمال الإيرانيين في امتلاك رقبة العراق، أو تحولهم إلى محرك أساسي للأحداث فيه، قد تحققت، وأن الخميني الذي اعتبر قبوله قرار وقف الحرب ضد صدام أصعب عليه من تجرع كأس من السم، أصبح الآن مستريحاً في قبره، لاسيما وشط العرب الذي دفع العراقيون من دمائهم الكثير من أجل تحريره من الجيش الإيراني، لم يعد العراق قادراً على تنظيفه، توطئة لاستخدامه باعتباره الرئة الرئيسية التي يتنفس منها.