هناك سبب منطقي يدعو الناس للقول: إنك يجب أن تتحسب قبل أن تبدي رغبتك في شيء ما لأنك قد تنال هذا الشيء يوماً فتتمنى حينئذ ألا تكون قد رغبت فيه. ولسنوات طويلة، ظل العالم يرغب في أن تستهلك أميركا أقل وتدخر أكثر، وها نحن نراه ينال ما رغب فيه، ولكن كيف يشعر الآن؟ فمعدل الادخار في الولايات المتحدة الذي كان يقل عن الصفر منذ أقل من عام، ارتفع ارتفاعاً كبيراً حتى وصل إلى ما يقرب من خمسة في المئة من الدخل، وهناك احتمال لأن يرتفع أكثر. علاوة على ذلك رأينا المدخرات الشخصية وهي تقفز من 20 مليار دولار في النصف الأول من عام 2008 إلى رقم مذهل وهو 433 ملياراً خلال الفترة نفسها من العام الحالي. وعندما تعمل الأسواق المالية بكفاءة يكون الادخار شيئاً مرغوباً.. بيد أن أميركا في لحظتنا الحالية التي تتعرض فيها صناعاتها الرئيسية لخطر التداعي الكامل في أمسِّ الحاجة إلى الاستهلاك لا الادخار. ومع ذلك تجد العائلات الأميركية نفسها في حالة نفسية دفاعية محضة، لأن التداعي الاقتصادي ابتلع حتى الآن ما يقرب من 14 تريليون دولار من ثروة أميركا مما جعل العائلات تدخر بدرجة غير مسبوقة. ومن المعروف لدى المتخصصين على الأقل أن الاستهلاك يشكل 70 في المئة من اقتصادنا. وعلى رغم أن عادات الاستهلاك السابقة الطائشة التي اعتمدت على تسهيلات مالية أكثر مما ينبغي، تكاد تكون بلا معنى الآن، إلا أن شبح الخوف الماثل أمامنا هو أن تأفُل تلك العادات الاستهلاكية في المدى الطويل. ويعني هذا أن النمو الاقتصادي المتوقع في السنوات المقبلة يمكن أن يكون منخفضاً إلى حد مذهل. وفي السنوات الأخيرة أصبح سلوك الأميركيين من أصحاب الفئة العليا من الأجور أمراً في غاية الأهمية بالنسبة للادخار. وسواء أحببنا الأمر أم لا، فإن هؤلاء الذين تصل دخولهم إلى 100 ألف دولار سنوياً مسؤولون عن نصف مبيعات تجارة التجزئة وعن 70 في المئة من هوامش الربح في تلك التجارة، وذلك وفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة "أميركان أكسبريس بابليشنج" بالتعاون مع مؤسسة "هاريوسن جروب ماركتنج آند ريزيرش". والسؤال المطروح الآن يدور حول ما إذا كانت واشنطن تقوم بـ"شيطنة" هؤلاء القادرين على إخراجنا من الركود الحالي. فمن المعروف أن الأثرياء الأميركيين قد تحولوا الآن إلى كبش فداء سياسي حيث يتم النظر إليهم باعتبارهم الأشخاص غير الشرعيين الذين استلموا على نحو غير شرعي عوائد عملية اللَّبرلة المالية، والذين سيواجهون قريباً زيادات كبيرة وصارمة في الضرائب. وليس هناك من يحب الأغنياء في أميركا، بيد أن ذلك لا ينفي أن ثمة أسئلة خطيرة متعلقة بالسياسة الاقتصادية وتدور حول ما إذا كانت نزوة واشنطن الأخيرة بشأن الحرب الطبقية (أغنياء ضد فقراء) تتصادم مع هدف التعافي الاقتصادي؟ وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى الدراسة التي أجرتها مؤسسة "إيبسو مندلسون المالية" حول مستويات اليسر المادي في الولايات المتحدة، والتي تبين من خلالها أن الضرائب قد أصبحت من الهموم الرئيسية بالنسبة للأميركيين من ذوي الدخل المرتفع والذين أصبحوا أكثر حرصاً بعد ما تكشف أمامهم من تداعيات للأزمة المالية. وثمة سؤال آخر يتعلق بهذه النقطة وهو سؤال يتركز على درجة قلق فئات الدخل العليا في الولايات حول تضخم الدَّين الوطني إلى مستويات قياسية. يشار في هذا الصدد إلى أن الإنفاق الفيدرالي سيصل في العام المقبل إلى 28 في المئة من الدخل المحلي الإجمالي، (تجاوزت نسبة الإنفاق 25 في المئة من الدخل المحلي الإجمالي أربع مرات فقط في تاريخ الولايات المتحدة بأسره). وعندما ينظر المؤرخون الاقتصاديون إلى هذه الفترة التاريخية فسيكون من المفيد من الناحية المعرفية بالنسبة لهم رؤية ما إذا كان انفجار الدَّين المحلي الآن كان هو المسؤول عن تغير سلوك أصحاب فئات الدخل الأعلى واتجاههم إلى الادخار على حساب تقليل الاستهلاك تحسباً لحدوث زيادة في نسبة الضرائب المفروضة عليهم نظراً لحاجة الحكومة الفيدرالية إلى المزيد من مصادر الدخل التي تستطيع بها تعويض الخسائر وبث الحيوية مجدداً في شرايين الاقتصاد التي أنهكتها الأزمة، أو تحسباً لأي تغيرات تضخمية ناتجة أيضاً عن زيادة مستوى الدَّين إلى مستويات مرتفعة للغاية. ومما يزيد من درجة عدم اليقين في الاقتصاد أن البنوك قلما تقرض أحداً الآن، وأن معدلات التصدير قد انخفضت كثيراً. وهو ما لا يترك في الحقيقة سوى خيار واحد هو اتباع الحكومة لسياسة تقوم على تحفيز الطلب في حالة ما إذا لم ينجح الاقتصاد في التعافي تماماً.. ونظراً لأن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس لا تبعد عنا سوى بفترة تقل عن العام فإن طرح صفقة تحفيز أخرى في بدايات عام 2010 ليس بالأمر المستبعد. وهنا تحديداً سيواجه صانعو السياسات لدينا خياراً صعباً يمكن التعبير عنه في صيغة سؤال: هل سيكون ضخ مبلغ تريليون دولار إضافي كافياً لإرضاء المستهلكين الذين خسروا ما يعادل هذا المبلغ 14 مرة؟ في تقديري أن العامل الذي سيلعب دوراً حاسماً في نجاح سياسة أوباما الاقتصادية هو مستوى الطلب الخاص على السلع المعمرة بحلول عام 2010. ولكن هذا النجاح سيتطلب إلى جانب ذلك المزيد من الإنفاق من قبيل العديد من أصحاب فئات الدخل العليا، الذين لا يحبهم الرئيس على الأرجح، والذين قد لا يحبونه هم أيضاً على الأرجح كذلك. ديفيد إم. سميك خبير استراتيجي مالي عالمي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"