يصطدم الأطباء المختصون في علاج داء السكري، وبشكل يومي، بسؤال أساسي حول أفضل أسلوب علاجي يمكن اتباعه، لتجنيب مرضاهم المضاعفات الصحية التي تنتج في المراحل اللاحقة من الحياة بسبب الإصابة بمرض السكري. أو بالتحديد، ما هو المتوسط الآمن لخفض مستوى السكر في دماء المرضى، الذي يمكنه أن يحقق في الوقت نفسه أكبر قدر من الوقاية ضد ظهور المضاعفات لاحقاً. ومن المعروف أن داء السكري، وإن كان لا يسبب الوفاة حالياً إذا ما كان المريض يتلقى علاجه بانتظام، إلا أنه يسبب مضاعفات صحية خطيرة بمرور الوقت، حتى في ظل انتظام المريض في تلقي العلاج. وهو ما يعني أن السكري الذي كان مرضاً قاتلا قبل عقود قليلة، قد نجح الطب الحديث في الحد من آثاره الفورية على المرضى من خلال الأدوية التي تأخذ عن طريق الفم أو من خلال الحقن بهرمون الأنسولين، وإن كان الطب الحديث لا زال عاجزاً عن منع مضاعفاته طويلة الأمد. والحال أن هذا السؤال المحوري في كيفية إدارة الرعاية الطبية المقدمة لمرضى السكري أجابت عليه، وإن كان بشكل جزئي، دراسة صدرت هذا الأسبوع عن علماء جامعة "كامبريدج" ببريطانيا. فمن خلال مراجعة وتحليل نتائج خمسة أبحاث أجريت في هذا الموضوع، على أكثر من 33 ألف مريض بالسكري، خلص علماء الجامعة إلى أن خفض متوسط مستوى السكر في الدم، وبنسبة أكبر من التوصيات المتبعة حالياً، من شأنه أن يقلل من احتمالات التعرض للمضاعفات التي تصيب قلوب مرضى السكري. وقدر العلماء هذه النسبة بـ17في المئة مقارنة بمن يسمح لمستوى السكر في دمائهم بالارتفاع إلى مستويات أعلى، وهي النسبة التي يمكن ترجمتها إلى تجنب وفاة ثلاثة أشخاص من بين كل مائتين يتم علاجهم من السكري على مدار خمس سنوات. وهذه النتيجة على رغم إيجابيتها، إلا أنها أثارت القلق بين بعض المتخصصين من أن محاولة خفض مستوى السكر في الدم إلى مستويات أقل، تحمل معها خطر دخول المريض في غيبوبة. ولفهم هذه المعضلة والجدل الدائر حولها، لابد وأن نسترجع بعض الحقائق الأساسية عن مضاعفات السكري، حيث تنتج غالبية مضاعفاته المزمنة، بسبب تأثيره السلبي على جدران الأوعية الدموية. فالخلايا المبطنة لجدران الأوعية، وبسبب عدم اعتمادها على الأنسولين في الحصول على الجلوكوز من الدم، ونتيجة لارتفاع مستوى الجلوكوز في الدم، تحصل على قدر أكبر من حاجتها، مما يؤدي إلى تغيرات تشريحية مجهرية مرضية. وبوجه عام تقسم مضاعفات مرض السكري إلى قسمين رئيسين، تلك التي تصيب الأوعية الدموية الصغيرة أو الشعيرات الدموية، وتلك التي تصيب الأوعية الدموية الكبيرة، مثل الشرايين المغذية لعضلة القلب. وبما أنه لا يوجد تقريباً جزء أو مكان من الجسم يخلو من الشرايين أو الشعيرات الدموية، تظهر مضاعفات الإصابة بالسكري على جزء كبير من الأعضاء والأجهزة في الجسم، بداية من العين، التي تصاب الشعيرات الدموية الموجودة في الشبكية بها، مما يؤدي لظهور الحالة المعروفة بالعين السكرية (Diabetic Retinopathy)، في شكل ضعف الرؤية، وتورم الجزء الحساس بها، والنزيف المجهري، ومن ثم العمى وفقدان البصر التام. ويكفي لإدراك مدى انتشار هذه الحالة، أن نعلم أن فقدان البصر بسبب العين السكرية يعتبر أكثر أسباب العمى انتشاراً على الإطلاق في الولايات المتحدة بين من لم يصلوا إلى سن الشيخوخة بعد. وإذا ما انتقلنا إلى الكليتين، فسنجد أن تأثير السكري على شرايينهما يؤدي إلى فشل الكليتين بشكل مزمن، مما يتطلب اللجوء إلى الغسيل الكلوي أو زراعة كلية جديدة. وكما هو الحال مع العين السكرية، يعتبر داء السكري أكثر أسباب الإصابة بالفشل الكلوي انتشاراً على الإطلاق بين سكان الدول الصناعية والغنية. وأخيراً وليس آخراً، هناك تأثير السكري على عضلة القلب، الذي إما أن يكون مباشراً، مسبباً ضعفها وفشلها في النهاية، أو أن يكون غير مباشر من خلال تأثيره على الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب، والذي يؤدي في النهاية إلى الإصابة بالذبحة الصدرية والوفاة. ولن يتسع المجال هنا لتعداد جميع الأعضاء والأجهزة التي تتأثر سلباً بالسكري، وإن كان يمكن توصيف الموقف كما لو كان ارتفاع مستوى السكر في الدم يتسبب في حالة من (الصدأ) العام داخل العديد من الأنسجة والأعضاء، يؤدي في النهاية إلى انهيارها وفشلها وتوقفها عن تأدية وظائفها. غير أن هذه المضاعفات ليست قدراً حتمياً على مرضى السكري إذا ما تمت إدارة علاج مرضهم بشكل يجعل متوسط مستوى السكر في الدم قريباً قدر الإمكان من المستوى الطبيعي. ولكن يبقى السؤال كما ذكرنا في البداية: ما هي درجة القرب هذه؟ فكما أظهرت دراسة جامعة "كامبريدج"، من المنطقي جداً أنه كلما قاربت مستوى السكر لدى الأشخاص الأصحاء، كلما قلت احتمالات ظهور المضاعفات. ولكن، هذا الاقتراب يحمل في طياته خطر العبور إلى الجانب الآخر، أي خطر خفض مستوى السكر في الدم عن المستويات الطبيعية، مما يسبب الارتباك الذهني، وفقدان القدرة على التركيز، والشعور بالإرهاق والإعياء، وربما حتى الدخول في غيبوبة تؤدي إلى الوفاة. وفي غياب الميكانيزم الطبيعي الفسيولوجي في تنظيم مستوى السكر في الدم، والذي لازال الطب الحديث عاجزاً عن محاكاته حتى ولو من بعيد، تظل إدارة الرعاية الطبية لمرضى السكر من المشاكل التي لا توجد إجابات قاطعة بعد على ما يحيط بها من مشكلات. د. أكمل عبدالحكيم