انتهت المواجهة الكلامية التي تفجرت الأسبوع الماضي بين تشيني وأوباما إلى ما يشبه الاتفاق الفاتر لكنه جوهري على استمرار المحاكم العسكرية، والحاجة إلى إبقاء مبدأ الاحتجاز غير المحدد لبعض الإرهابيين، ليبقى الخلاف الأهم بين الطرفين حول أساليب الاستنطاق التي تعهد الرئيس الأميركي بوضع نهاية لها، لكن دون أن يتخلى عن عمليات القتل الموجهة لإرهابيين في باكستان باستخدام الطائرات من دون طيار، وترحيل عناصر إلى دول لا تكترث بمعاهدات جنيف. هذا الاختلاف الظاهري ثم الاتفاق الجوهري بين الرجلين، يضعنا أمام نوع من النفاق، لكنه، على كل حال، يخدم المصالح القومية. وعلى جبهة أخرى في الطفرة الإعلامية لنائب الرئيس الأميركي السابق، ديك تشيني، هاجم وزير الخارجية السابق كولين باول، لما صرح به هذا الأخير بشأن مستقبل الحزب "الجمهوري". ويبدو أن النقاش مازال في طور الإحماء، ولم يحتدم بعد، ففي رده على تصريحات باول المنتقدة للحزب، قال تشيني بنبرة تطفح بالسخرية والمرارة: "لم أكن أعرف أنه مازال جمهوريا"، فيما رفض "باول" تعليق "تشيني" واعتبره "مضللا" قبل أن ينتقد الحزب "الجمهوري" على أنه "ضيق للغاية". والحقيقة أن هذا الخلاف بين تشيني وباول يمثل في أحد جوانبه ذلك الاصطفاف الأيديولوجي داخل الحزب "الجمهوري"، ففيما يُلاحظ على تشيني خلال فترته التي قضاها في الكونجرس طابعه "المحافظ" بشكل عام، إلا أنه كان أيضاً مثار تقدير من قبل معتدلي الحزب لنبرته المعقولة وميوله المعتدلة، فقد كان دائماً متحفظاً بشأن القضايا الاجتماعية المثيرة للجدل باستثناء تأييده الصريح لزواج المثليين خلافاً لـ"باول"، الذي كان أحد واضعي مبدأ "لا تسأل ولا تتحدث" بشأن مسألة المثلية الجنسية في صفوف الجيش، وأيضا كان باول وزوجته "ألما" مصدر تقدير دائم من "المحافظين" لاعتناقهم مبدأ توجيه النشء وتربيتهم أخلاقياً. لكن مع ذلك نشعر بأن تشيني كان محقاً عندما شكك في ارتباطات باول الحزبية ومدى إخلاصه لـ"الجمهوريين"، لأن هذا الانطباع هو ما سعى باول نفسه إلى تكريسه، ففي عام 1995 صرح وزير الخارجية السابق أنه غير قادر على "إيجاد مكان يناسبه في كلا الحزبين" ولوح بفكرة الترشح للرئاسة كمستقل، وحتى عندما تصالح باول مع ميوله "الجمهورية"، فهو نادراً ما انتقد الحزب "الديمقراطي" بنفس الحماس الذي يستخدمه في التنبيه إلى تجاوزات الحزب "الجمهوري"، ثم أخيراً التأييد الذي خص به باول الرئيس الحالي أوباما أثناء حملته الانتخابية بدل خصمه الجمهوري "جون ماكين". ورغم كل ذلك يبقى باول الشخص الأنسب الذي يتعين على الحزب "الجمهوري" الإصغاء إليه في هذه المرحلة، فلا شك أن حزباً يركز على الإقصاء والاستبعاد بدل التبشير والاستقطاب يمر بأزمة، وكل ما يسعى باول إلى فعله هو التنبيه إلى بعض الحقائق ووضع أصبعه على الأزمة. أولا علينا أن نعترف بأنه من قبيل الأسطورة الاعتقاد بأن خطاب محافظ بعينه قادر على كسب أميركا في كل مكان، فلا وجود لمقاربة أيديولوجية يمكن وصفها "بالطاهرة تماماً" سواء كانت ليبرالية، أو محافظة تستطيع كسب ولاية "ألاباما" المحافظة جداً وولاية"أوريجون" الأقل محافظة، وحتى في أوج ثورة ريجان المحافظة، ضم مجلس الشيوخ الذي سيطر عليه "الجمهوريون" أصواتاً معتدلة وليبرالية، فلا بد لأي حزب سياسي يسعى إلى مخاطبة أمة تمتد على قارة بأكملها أن يتبنى التنوع ويستند إلى تحالف أيديولوجي بجميع ألوان الطيف. والحقيقية الثانية التي يثيرها باول عن حق هي ضرورة أن يتبنى القائد "الجمهوري" الناجح خطاباً غير تقليدي، ويستشهد باول هنا بـ"الجمهوري" الراحل "جاك كامب" الذي وإن كان محافظاً إلا أنه "كان يؤمن بعدم الإقصاء والتواصل مع الأقليات والفقراء". فقد نجح حزب أوباما في حشد الأغلبية التي يتمتع بها حالياً في الكونجرس، لأنه اهتم بالعوامل الديموغرافية التي مع الوقت تتحول إلى قوة ديمقراطية، لا سيما شرائح السكان من غير البيض وضمن خريجي الجامعات، ومن الصعب تخيل "الجمهوريين" يستعيدون زخمهم وسط تلك الفئات من المجتمع دون خطاب يركز على العدالة الاجتماعية والإدماج والقيادة البيئية الحكيمة والحراك الاجتماعي، بالإضافة إلى السياسة المحافظة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي التي ستستمر في تحفيز التحالف "الجمهوري" خلال المستقبل المنظور. ويبدو أنه خلال سنوات كلينتون داعب "الجمهوريون" لبعض الوقت فكرة الإدماج والاعتدال وأبدوا استعدادهم لقبول كولن باول كمرشح، فقد أخبرني زميلي "بيل كريستول" أنه (منفتح على فكرة أن مصلحة "المحافظين" قد تقتضي تحقيق انتصار كاسح على يد مرشح "جمهوري" معتدل)، وحث "ويليام بينيت" إلى النظر بجد في ترشيح باول قائلا (هناك البعض في الحزب يرفض هذا الطرح وهو أمر غير مقبول، بسبب الدعوات التي تقول بتطهير الحزب ممن هم ليسوا "جمهوريين" بما يكفي، والحال أن رجلا مثل باول عليه أن يستقبل في الحزب بأذرع مفتوحة". لكن ومنذ ذلك الحين عندما رفض "الجمهوريون" ترشيح باول لم يعد أحد المخلصين للحزب، ومع ذلك تحتفظ الحقائق التي أثارها بوجاهتها رغم مرور كل هذا الوقت. مايكل جيرسون ـــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"