تناقلت الصحف الأجنبية والعربية، ومنها جريدة «الاتحاد»، خبر العثور على كائن لبون، يمكن أن يحل لُغز الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان. كائن مات قبل 47 مليون سنة. وحقاً إنه عدد مخيف من الدهور الدهيرة، مقابلة بأعمار المعمرين والمعمرات من الكائنات، السلاحف والنخيل مثلا! وقبل أكثر من ثلاثين عاماً قرأت كتاب تشارلز داروين (ت 1882) «أصل الأنواع»، ولم أفهم منه شيئاً! مثلما حاولت قراءة كتاب كارل ماركس (ت 1883) «رأس المال» ووجدته عصياً على الفهم أيضاً، وما زالا كذلك. أما كيف وصلت الى الكتابين، واندفعت إلى قراءتهما، فكان عن طريق الشيخ قارئ المنبر الحسيني، لا عن نصيحة حزب أو تجمع ثقافي. فالأخيران يدركان صعوبة محتوى الكتابين، وما يحدثانه من نفرة أو ردة فعل ممَنْ لم يتعد العشرين بعد. إلا أن قارئ المنبر بسط «نظرية أصل الأنواع» و«رأس المال»، إلى درجة أغرانا بقراءتهما، وهو سبب معرفتنا بهما آنذاك. فكان يبدأ مجلسه، بعاشوراء، بعد المقدمة المعروفة، بشتم داروين وماركس، والجالسون تحت أعواد منبره، لا يعرفون مَنْ هما! فهمنا من القارئ أن داروين قال بأن «أصل الإنسان كان قرداً»، وأن ماركس يُريد مصادرة ما لدينا من أموال. كان إفحامه لنظرية «أصل الأنواع» بالقول المباشر: «مَنْ يقبل أن يكون جده قرداً»! ولم يكتف بهذا، بل يأتي بأسماء شخصيات مقدسة، ويطبق عليها القول نفسه، وبذلك يُذكي جمر العواطف، ولو كان داروين موجوداً بالمجلس لقطعه السامعون إرباً. وفيما يخص "رأس المال" وصاحبه كارل ماركس، فالشيخ يبدأ بمهاجمته شخصياً، ثم يعرج على زوايا قصر الكرملين، وكأنه أحد نزلائه، ويأتي بالفضائح الأخلاقية التي تحدث فيه، وبعبارات مغرية وانفعال منقطع النظير. كان شأن الشيخ القارئ أو الخطيب، مع الكتابين، شأن آية الله الخميني (ت 1989) عندما أفتى بقتل سلمان رشدي، فأذاعت تلك الفتوى صيت الكتاب، وشهرته أيما شهرة، فأخذ يفتش عنه الداني والقاصي. هذا مع أن القرآن يقول: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ» (القصص 55)، «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا» (الفرقان 72). وكم من كتاب شهّرته وروجت له الفتاوى، حتى غدا مؤلفون كثر يبحثون عن مفتين لرواج مؤلفاتهم، وتراهم يتقصدون مخالفة الأعراف بما لا تستوجب المخالفة، إلى الاستفزاز طمعاً بفتوى. ولعلَّ أول المذمومين بسبب مبدأ، أو نظرية داروين، كان الشاعر الفيلسوف، على حد ما أُطلق عليه من الألقاب، جميل صدقي الزهاوي (ت 1936)، لقوله: «المذهب القوي في رأيي هو مذهب داروين في النشوء والارتقاء، وقد تبعته، ولم يتبعه غيري قبلي، وقد شاع بسببي في العراق» (الرشودي، الزهاوي دراسات ونصوص). وبسبب داروين، ومواقف أخرى، يُنقل أنه عندما مات الزهاوي الشاعر، رفض ابن أخيه الشيخ أمجد الزهاوي (ت 1967) طلب الملك غازي (قُتل 1939) بالصلاة على الجنازة. ولما عاتبته أرملة عمَّه، قائلة إن زوجها كان يكثر الاستغفار والصلاة في أواخر حياته، ندم على موقفه (بابير، علماء الإسلام). ويغلب على الظن أن "فيلسوف الشعراء" هو الآخر لم يفهم شيئاً من نظرية داروين، فما كانت قد تُرجمت، وإنما، كما يبدو، لمجلة «المقتطف» المصرية دورها في إشاعة النظرية. ونقول في الزهاوي "فيلسوف الشعراء" ذلك لمرثية معروف الرصافي (ت 1945) له: «أيها الفيلسوف قد عشت مضنى... مثل ميت وصرت بالموت حياً» (الديوان). وتأبين محمد مهدي الجواهري (ت 1997): «وفلسفةٌ أطلعت في الشعر نُورها .. .. هي اليوم ثكلى عن جميلٍ تُناشدُ»(الديوان). إلا أن المفاجأة، بعد تكفير المقتنعين بنظرية داروين، وهي ما زالت فرضية، فالأبحاث والتنقيبات جارية، نجد التراث العربي الإسلامي حاوياً أكثر مما هي إيماءة إلى صلة عالم القِردة بالعالم الإنساني، وكل هذا لم يخرج عن نطاق البحث في مخلوقات الله. كتب الجاحظ (ت 255هـ): «وشبه ظاهر القرد بظاهر الإنسان: ترى ذلك في طَرفه، وتغميض عينيه، وفي ضحكه وفي حكايته، وفي كفه وأصابعه، وفي رفعها ووضعها، وكيف يتناول به» (كتاب الحيوان). وكتب محمد الوطواط (ت 718هـ): «وهذا الحيوان عند المتكلمين في الطبائع، مركب من إنسان وبهيمة، وهو تدرج الطبيعة من البهيمة إلى الإنسان، وهو يحاكي الإنسان بصورته وأفعاله» (مباهج الفكر ومناهج العبر). كذلك كتب "إخوان الصفا" (القرن العاشر الميلادي): أن رتبة الإنسانية «بصورة الجسدانية مثل القِرد، ومنها بالأخلاق النفسانية مثل الفرس الكريم ...» (الرسالة العاشرة). وأخيراً صاغ ابن خلدون (ت 808هـ) ما ذهب إليه إخوان الصفا، و«انتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القِرَدة، الذي اجتمع فيه الكيس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان أول أفق من الإنسان» (المقدمة). وضمن معاكسة مقولة داروين، التي سبقه إليها علماء ومفكرون مسلمون، لكن ليس لهم مختبره وفن تشريحه، قُلبت مفردة «القِرَدة» في مقدمة ابن خلدون إلى «القدرة»، وهذا ما كشفه ساطع الحصري (ت 1967)، في نسخ من «المقدمة». قال: «من الغريب أن الطبعات الشرقية مسخت تعبير عالم القردة إلى شكل عالم القدرة، وجردت بهذه الصورة الفقرة الأخيرة المذكورة من معناها المهم، كما حرمتها من كل معقول، إذ ليس في استطاعة أحد أن يستخرج أي معنى كان من عبارة تنص: "أن أنواع الحيوان ترتفع إلى الإنسان من عالم القدرة، الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم تنته إلى الروية والفكر والفعل" (دراسات في مقدمة ابن خلدون، 1953 القاهرة). إلا أن محقق «المقدمة» علي عبد الواحد وافي يظهر كأنه مكتشف ذلك التصحيف، المتعمد، في عدد من الطبعات، ولم يشر إلى الحصري بشيء، وهو الذي أصدر نسخة المقدمة بتحقيقه (نهضة مصر 2003) بعد خمسين عاماً على صدور كتاب الحصري، واكتشف الأخير ذلك التصحيف من النسخة المخطوطة بباريس. ويا ليت شعري، هل هو تغافل من الدكتور الوافي، أم جهل، وكلاهما جرح في البحث العلمي. على أية حال، ما قدمناه كان تاريخاً لفكرة، لم يواجه بسببها الأولون تكفيراً أو نقمة، وينبيك ذلك عن فسحة تلك العصور وشدة عصرنا. وإن صفحت الكنيسة عن تشارلز داروين فما زال المعجب بها جميل صدقي الزهاوي ملعوناً. ولا أدري، كيف يستقبل الخطباء وقُراء المنابر الاكتشاف الذي جدد الجدل حولها، وبما يعترضونها، بعد أن أفحمها شيخنا بالقول: «مَنْ يرض أن يكون جده قرداً»!