المتابع للنشاطات السياسية الإيرانية سوف يلاحظ أن الخطاب الإعلامي المصاحب لهذه النشاطات يركز على الجانب الأخلاقي للسياسة الإيرانية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. الفكرة الرئيسية في ذلك أن أحد المرتكزات الرئيسية للسياسة الإيرانية في المنطقة هو الدفاع عن الحق العربي في فلسطين. وقد نجح الإيرانيون في تسويق هذا الطرح داخل العالم العربي. بل إن بعض الكتاب والسياسيين العرب يقبلون هذا الطرح الإيراني، ويدافعون عنه. وعادة ما يتم ذلك في إطار الانقسام العربي بين ما يسمى "الاعتدال" و"الممانعة". هل هؤلاء محقون في رؤيتهم للسياسة الإيرانية؟ وهل صحيح أن المحرك الرئيس للسياسة الإيرانية في المنطقة، فيما بعد سقوط العراق، هو الدفاع عن الحق العربي؟ هل هناك أهداف أخرى لإيران من وراء هذه السياسة؟ هل يمكن القول بأن استخدام إيران للقضية الفلسطينية ليس أكثر من غطاء أخلاقي لتسويق تمدد الدور الإيراني، وتوسيع نفوذه على حساب الدول العربية؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هي مسؤولية العرب في هذا التطور الذي اتخذته الأحداث مؤخراً؟ سبق وأن تطرقت من قبل إلى الدور الإيراني وطبيعته. لكن ما يدفعني للعودة إليه مرة أخرى هو الفرصة التي أتاحتها لي صحيفة "العرب اليوم" الأردنية طوال هذا الأسبوع من تواصل مع قرائها من خلال صفحة "ضيف تحت المجهر". كان القراء الذين وجهوا الأسئلة من مختلف المشارب، من كتاب، وإعلاميين، وطلاب. وما لفت نظري في كثير من الأسئلة أنها في أغلبها تعبر عن حالة إحباط واسعة. الكثير من أسئلة القراء هنا تنطلق من نبرة أخلاقية دفينة في النظر للأحداث والقضايا السياسية، وتحديداً من موضوع الدور الإيراني، وعلاقته بالأوضاع العربية. يأتي في هذا الإطار التساؤل باستنكار واضح: "لماذا (كما قال أحد القراء) يراد لنا من بعض الأنظمة، المسماة معتدلة، أن نتوجه بالعداء إلى إيران بدل العدو الصهيوني؟ هل هناك مصلحة حقيقية لنا من وراء ذلك؟ أم أن هناك دورا تمارسه بعض الأنظمة، أو مطلوب منها أن تمارسه لحرف البوصلة عن العدو الحقيقي؟". في هذا السؤال نبرة اتهامية واضحة، تنطلق من رؤية أخلاقية دفينة، تختبئ بين السطور. ولعل هذه الرؤية التي يبدو أنها آخذة في الانتشار تعبر عن الحالة العربية، وتحديداً الأداء السياسي العربي في إطار الصراع مع إسرائيل، وبالمقارنة مع الأداء الإيراني، كما يبدو للشارع العربي. الاعتقاد السائد أن السياسة لا تعمل وتتحرك من منطلقات أخلاقية. السياسة كما يقال هي فن الممكن، وهي تقوم في أساسها على المصلحة أولا وقبل كل شيء. وهذا صحيح. فجميع الأنظمة تتعامل مع الأحداث والصراعات، والخلافات السياسية من منظور المصلحة السياسية. لكن موقف البعض من الدور الإيراني لا يرى الأمور من هذه الزاوية تماماً. وقد يكون في هذا شكل من أشكال التعبير عن الإحباط السائد في العالم العربي. لكنه يبقى لافتاً، خاصة في ضوء أن الكثير من الأنظمة العربية تذهب إلى ما هو أبعد من المصلحة السياسية بمعناها العام. على العكس، المصلحة بالنسبة لها هي مصلحة النظام، واستقرار النظام، وليس بالضرورة المصلحة الوطنية الأكثر شمولا. في الوقت نفسه تعمل هذه الأنظمة على تعميم الرؤية الأخلاقية للسياسة، والصراعات السياسية. لكنها لا تسمح بإخضاع سياساتها هي للتحليل والنقد على أساس من المعيار الأخلاقي ذاته. بل لا تسمح بنقد سياساتها انطلاقاً من أي معيار كان. المطلوب من وجهة نظرها أن يتوجه النقد، وربما التجريح، حصرياً لسياسات الدول الأخرى التي تختلف معها، والتعامل مع سياساتها تعاملا أخلاقياً بعيداً عن حقيقة العمل السياسي. هذا في حين أن حقيقة العمل السياسي هي الإطار الذي يجمع الأنظمة العربية مع الدول الأخرى. هدف الأنظمة العربية من إدخال المعيار الأخلاقي على هذا النحو واضح، وهو إشغال المواطن بالتركيز على أخطاء وتجاوزات وانتهاكات الدول الأخرى، وذلك للابتعاد والانشغال عن تناول أخطاء وانحرافات الدول العربية في سياساتها الداخلية والخارجية. نعم لابد من تحليل وتشريح سياسات الدول غير العربية، والكشف عن حقيقة هذه السياسات ومراميها، لكن لا يجوز أن يكون هذا بديلا عن تطبيق المنهج ذاته على سياسات الدول العربية قبل غيرها. لأن هذه الدول هي المسؤول الأول بحكم ولايتها عما آلت إليه الحالة العربية. ولا شك أن الرؤية الرسمية العربية هذه تغذي النظرة الأخلاقية لدى البعض، كما هو واضح في الموقف من إيران. من هذه الزاوية يقال بأنه يراد لإيران أن تكون هي العدو. وهذه مبالغة تسمح بها الرؤية ذاتها. لأن الحقيقة أن إيران ليست عدواً للعرب. هي دولة إسلامية، وجارة للعالم العربي، ومن الممكن أن تمثل رصيداً للعرب. لكن إيران في الوقت نفسه هي أكثر من ذلك أيضاً، هي خصم أو منافس إقليمي. وهذه معادلة لا يمكن الأخذ بطرف واحد منها بمعزل عن طرفها الآخر. الأخذ بغير ذلك يوقع في قلب التعامل الأخلاقي البسيط مع السياسات والدول. ولا أظن أن أحداً يعتقد بأن إيران هي جمعية خيرية للعرب أو لسواهم. إيران دولة لها شعب وتاريخ حافل، ولها أيضاً مصالح تلتقي أحياناً أو كثيراً مع العرب، وأحياناً أخرى لا تلتقي. مثلا إيران ساعدت الولايات المتحدة في إسقاط النظام العراقي السابق، حسب نائب الرئيس الإيراني علي أبطحي، وذلك للتخلص من ألد أعدائها في المنطقة (صدام حسين)، وتسهيلا لوصول حلفائها إلى الحكم في هذا البلد العربي. أين يقع هذا من المصلحة العربية؟ الحقيقة أن الملامة هنا لا توجه إلى إيران، لأنها وطبقاً لمنطق السياسة المشار إليه كانت ولاتزال تتصرف في هذا الموضوع على ضوء مصالحها. بدلا من ذلك يجب أن توجه الملامة أولا لقيادة النظام العراقي السابق التي سمحت لنفسها بأن تقع في الهاوية، وللدول العربية التي تركت العراق لمصيره. ثانياً إيران تحتل الجزر الإماراتية الثلاث المعروفة، وهو احتلال بدأ في عهد الشاه. من وجهة النظر الأخلاقية لدى البعض يبرز سؤال هنا: لماذا لا تنسحب إيران من هذه الجزر أولا تقديراً لجيرتها مع العرب، وثانياً للتخلص من الإرث السياسي للشاه، وثالثاً كاستجابة مع تأكيدات العرب المستمرة على ضرورة الحل السياسي والأخوي لهذه القضية؟ الأكثر من ذلك أن إيران ترفض حتى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لحل القضية. لكن إيران في هذه المسألة تعتبر أن مصلحتها في مياه الخليج العربي تقتضي الاحتفاظ بهذه الجزر. وبما أن الشاه هو الذي احتل الجزر، والجمهورية الإسلامية تصر على الاحتفاظ بها، فهذا يعني أن الموقف الإيراني من الجزر موقف قديم وراسخ، بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم هناك. نأتي بعد ذلك إلى البرنامج النووي الإيراني؟ هل هو سلمي حقاً أم عسكري؟ وإذا كان عسكرياً فما هو الهدف من ورائه؟ ليس هناك إلا طريقة واحدة للتعرف على الهدف الإيراني من هذا البرنامج، وهي أنه استكمال لتحول إيران إلى وضع تصبح فيه الطرف الأقوى في معادلة موازين القوة في منطقة الخليج العربي، والجزيرة العربية. لا شك أن إيران نجحت في استثمار تراجع العراق بعد غزوه للكويت، ثم خروجه من تلك المعادلة بعد الاحتلال الأميركي. مرة أخرى، تنتهج إيران في هذا البرنامج سياسة ترى أنها تحقق طموحاتها الإقليمية. هذه بعض الأمثلة، وهي لا تعني أن إيران عدو للعرب، بل طرف منافس في المنطقة، ولا ينبغي مطالبة العرب بالتعامل معها على غير هذا الأساس. هناك ملاحظة أخرى، وهي أن الدور الإيراني في المنطقة لا يقوم دائماً على أساس من العلاقة المباشرة مع الدول العربية. بدلا من ذلك يقوم هذا الدور في أكثر من حالة على أساس من مد العلاقة بما يتجاوز الدولة إلى تنظيمات أو أحزاب في داخلها. يحصل هذا في العراق حيث الشيعة يشكلون أغلبية، والتنظيمات السياسية الشيعية هي أبرز القوى السياسية هناك. ويحصل أيضاً في لبنان حيث الطائفة الشيعية مكون أساسي في المجتمع. علاقة إيران مع هاتين الدولتين تتجاوز العلاقة الرسمية مع الدولة لتشمل تنظيم "المجلس الأعلى" في العراق، و"حزب الله" في لبنان. تحاول إيران من خلال ذلك إيجاد قوى حليفة لها في المنطقة لممارسة الضغط على الدول العربية بهدف فرض خياراتها السياسية عليها. كل ذلك لا يلغي أن إسرائيل هي عدو العرب. لكن أين يقع البعد الأخلاقي في هذه السياسة الإيرانية؟