تأتي الثورة المعرفية التي تتعاظم في الدول الصناعية المتقدمة وفي نطاق النظام العالمي الجديد، لتؤكد على الشرخ العميق القائم بينها وبين بلدان العالم العربي (والإسلامي) أولا، ولتشير إلى التغيرات والإجراءات الكبرى التي ترافقها هناك ثانياً. وقد راح الكلام على ذلك يظهر وتعلو نبرته مع انعقاد الدورة الـ 36 لوزراء خارجية دول "منظمة المؤتمر الإسلامي" بدمشق في الفترة الممتدة من 23 إلى 25 من مايو الجاري، وتحث الدعوة إلى "تعزيز التضامن الإسلامي". والحق، إن هذه المسألة المتمثلة بتلك الفجوة المعرفية بين الفريقين المذكورين ليست وليدة ظهور النظام العالمي المعْني (وهو نظام قد يكون وُضع موضع تساؤل مع حلول الأزمة المالية العالمية الراهنة، ومع مجيء باراك أوباما إلى الرئاسة الأميركية). ولكنها أصبحت في إطار هذا النظام محوراً كبيراً بل حاسماً في ضبط آفاقه واحتمالاته. لقد تسارعت عمليات استخدام التكنولوجيا في سياق صيرورتها جزءاً حاسماً من عناصر الإنتاج، يداً بيد مع احتكار الدول الصناعية المتقدمة لها بمقتضى شروط حقوق الملكية المعمّمة دولياً، مما أفضى إلى تعميق الفجوة بين تلك الدول من طرف، وبين دول العالم من طرف آخر، خصوصاً في العالم الثالث، وما يشتمل عليه من دول العالمين العربي والإسلامي، وهذا بدوره يسهم في إحكام قبضة "التخلف" في العالم المذكور. وبالرغم من الاتساع الشاسع للعالم الإسلامي ومعه العالم العربي، إضافة إلى الغنى الكبير والمتنوع الذي يتصف به على صعيد الثروات الطبيعية، وإلى عدد القاطنين فيه البالغ 1.762 مليار إنسان، فإنه مما يدعو للدهشة - المسوّغة تاريخياً - أن نعلم أن نسبة الإسهام الذي يقدمه ذلك العالم على صعيد الانتاج المعرفي العلمي لا تصل إلا بصعوبة إلى 6 بالمئة، وبحسب تقارير التنمية البشرية بخصوص مجتمع المعرفة، فإن حالة من التشاؤم في إطار إنتاج المعرفة تهيمن في العالمين المذكورين، مُسهمة بذلك في تعميق الفجوة الرقمية بينهما وبين البلدان الصناعية المتقدمة. وفي تقرير خاص بالتنمية البشرية، يلاحظ بوضوح أن صناعات (الإنفوميديا) المتجسدة بالحوسبة والاتصالات والالكترونيات الاستهلاكية، تعتبر من أضخم الصناعات العالمية وأكثرها وأسرعها نمواً، إضافة إلى أن رأس مالها يتجاوز ثلاثة تريليونات دولار، مما يقطع في أن القاعدة الأساسية والمحرّكة للاقتصاد العالمي تقع في عالم البلدان الصناعية المذكورة. وهذا من شأنه أن يقود إلى تهميش الاقتصادات الكائنة في العالمين الإسلامي والعربي، ومن ثم إلى فتح الطريق لإلحاقهما بالاقتصاد العالمي (المعرفي). ولعل البحث في الأسباب الكامنة وراء تلك الهوة بين الفريقين المذكورين يدعو لوضع اليد على تاريخية كل منهما، ومن ثم على الشروط التاريخية، التي أسست للهوة المذكورة في ظروف التطور المعرفي العلمي الهائل في عصرنا، ها هنا، لا يكفي أن نذكّر بالأشكال المتعددة لإلحاق الفريق الأول (الإسلامي والعربي) بالفريق الثاني، ولا أن نفصّل في الاختلاف بين بنية أولهما وبنية ثانيهما. المهم هنا يتمثل في تحديد بنية النظام الاقتصادي السياسي من طرف، وموقعه في التاريخ الاقتصادي السياسي من طرف آخر. ومن شأن ذلك القول بأنه لا يكفي أبداً البقاء في حدود التحليل البنيوي للنظام المعني. لا يكفي أننا قدمنا تلك المعطيات عن واقع وتطور "المجتمع المعرفي" وتقارير التنمية البشرية التي تقدم حوله، كما لا يصح التعرض لـ "صناعات الإنفوميديا" فحسب، ولا يصح الاكتفاء بتقديم مقارنات بين المجتمعات الصناعية المتقدمة والأخرى في العالمين الإسلامي والعربي وما يلتقي بهما. إن تقديم عملية تحليل وتركيب تاريخية لبنى كلا النمطين من المجتمعات المذكورة، أمر فائق الأهمية لضبط موضوع بحثنا. وإذ ننجز ذلك وفي سياقه، نتبيّن أن "فجوة تاريخية" تكمن بين النمطين المعنيين، أسست لـ "فجوة بنيوية" بينهما، تأخذ في التعاظم عمقاً وسطحاً، وهي هذه التي نعيش مظاهرها في بلدان الصناعات المتقدمة. والآن، حين يأتي باحثو ومفكرو "منظمة المؤتمر الإسلامي" ليتقصّوا مظاهر التخلف في العالمين العربي والإسلامي، يجدون أنفسهم مدعوّين إلى القيام بدراسة شاملة يتقاطع فيها البنيوي مع التاريخي في الحقلين المذكورين، وأن يخضعوا المقارنات التي يقومون بها بينهما لهذه الدراسة. وتبقى الإشارة إلى أمرين اثنين، يتمثل أولهما في التنبّه إلى ضرورة التمييز بين مفهوم "البيّئة" القابل لأن تدرسه المدارس الفلسفية والعلمية كلها، وبين "المذهب البنيوي"، الذي يُخضع كل مظاهر البحث لدراسة بنيوية محرّرة من البعد البحثي التاريخي، أما الأمر الثاني فيقوم على أن البحث العلمي، هو المدخل الأول، في حين أن التأسيس لمشروع عربي (إسلامي) هو المدخل الثاني.