كنت مثل مئات غيري ممن اهتموا بظاهرة أوباما أتابع عن كثب مسيرته في سباق الرئاسة الأميركية ثم أولى خطواته الرئاسية بعد دخوله البيت الأبيض، وكنت ضمن الفريق الذي يرى أن الظروف المحيطة بوصول أوباما لسدة الرئاسة الأميركية فضلا عن طبيعته الشخصية ترجح أن تغييراً ما سيحدث في السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً، مع الاعتراف بأن هذا التغيير لن يطول السياسة الأميركية تجاه إسرائيل لاعتبارات مفهومة. ومع ذلك أخذت أرصد من باب الأمانة العلمية مؤشرات التناقض المحتمل بين أوباما وإسرائيل وفقاً لما جاء في مقالة لي نشرت في هذه الصفحة في منتصف أبريل الماضي بعنوان "أوباما وإسرائيل: تناقض محتمل"، وخلصت في النهاية إلى التبرؤ من أية أوهام تشير إلى أن "أوباما سيشهر سيفه في وجه إسرائيل، وينازلها من أجل أن ترضخ للمطالب العربية"، وإنما الأمر مجرد دعوة للتفكير في إمكانية حدوث تناقض ولو على نحو غير مباشر بين السياسة الأميركية في عهد أوباما وبين إسرائيل وفي الكيفية المثلى عربياً لاستغلال هذا التناقض إن وجد، باعتبار أن شيئاً لن يتحرك لصالح العرب إذا استمر انقسامهم وعجزهم. ولقد واصلت اهتمامي بعد ذلك بالموضوع نفسه، ولاشك أن زيارة نتانياهو لواشنطن ولقاءه بأوباما في الأسبوع الماضي كانت مناسبة لقياس درجة التغير المحتمل في السياسة الأميركية، وعند هذا الحد يجب الاعتراف بأن مؤشرات التغير المستمدة من تصريحات أوباما أثناء هذا اللقاء قد غابت تماماً، مع ملاحظة أن معظم وسائل الإعلام العربية قد شدد عليها مرحباً ومتفائلا، وهو عكس الانطباع الذي تولد لديّ تماماً. شدد الرئيس الأميركي كما يقولون على ضرورة وقف الاستيطان الذي اعتبرته واشنطن "مضراً بالمناخ التفاوضي"، والتزام إسرائيل بـ"الاتفاقات السابقة" ومن بينها "خريطة الطريق ونتائج مؤتمر أنابوليس". أخذت أتأمل هذه التصريحات بحثاً عن أي شيء يمكن أن يفيد حدوث تغير في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل، فمصطلحات مثل حل الدولتين والتزام خريطة الطريق ونتائج مؤتمر أنابوليس تعود كلها إلى حقبة جورج بوش، فهو أول رئيس أميركي يطرح فكرة "حل الدولتين"، بل ويسعى في مجلس الأمن للتصديق عليها بما يعني أن الدولة الفلسطينية صارت تملك من مصادر "الشرعية الدولية" وثيقتين مهمتين أولاهما قرار التقسيم لعام1947 الذي ينص على إنشاء دولة عربية في فلسطين تقوم على الأرض المحددة بالخرائط المرفقة بالقرار، وثانيتهما قرار مجلس الأمن الذي وافق فيه على حل الدولتين. والفكرة إذن مرتبطة بحكم بوش ولذلك لا يمكن الادعاء بوجود الحد الأدنى من التغيير في هذه النقطة. وينطبق الأمر نفسه على خريطة الطريق ومؤتمر أنابوليس، فالأولى صدرت في2003 أي إبان الرئاسة الأولى لبوش الابن، وهي كمحاولات التسوية السابقة تتسم بأنها لا تحمل رؤية -أية رؤية- لطبيعة التسوية النهائية وما قد تفضي إليه من حلول للقضايا المزمنة في الصراع العربي- الإسرائيلي على المسار الفلسطيني، وإنما الأمر مرتبط بمفاوضات مفتوحة النهايات يتصور أن تفضي في الأخير إلى الحلول النهائية المنشودة، والتي ستكون بطبيعة الحال -ووفق نص الوثيقة- حلولا متفقاً عليها الأمر الذي يعني استحالة التوصل إلى التسوية الآن نظراً لما نعرفه جيداً عن الموقف الإسرائيلي عامة ورؤية حكومة نتانياهو خاصة، اللهم إلا إذا تدخلت إدارة أوباما بشكل قاطع لفرض التسوية، وهو ما لا يوجد حتى الآن أي مؤشر على إمكانية حدوثه. أما الالتزام بمؤتمر أنابوليس فأضحوكة، لأن نتائج المؤتمر كانت فارغة تماماً من أية رؤية للتسوية ومن أي جديد عموماً، وكانت "مفخرة" هذه النتائج فكرة الإطار الزمني الذي يجب أن تحدث التسوية فيه قبل نهاية ولاية بوش أي في نهاية2008، وهي فكرة نسفها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق فور انتهاء المؤتمر، فضلا عن أنها انتهت أصلا مع انتهاء عام2008 دون التوصل للتسوية المنشودة، ولذلك فإن المرء ليعجب من الطريقة التي رفض بها وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان نتائج مؤتمر أنابوليس فور توليه مهام منصبه، أو من حديث أوباما عن ضرورة الالتزام بهذه النتائج وقد أصبحت غير ذات موضوع أصلا. ويبقى موضوع الاستيطان الذي "شدد" الرئيس الأميركي على ضرورة وقفه باعتباره ضاراً بالمناخ التفاوضي، وهو بدوره سياسة أميركية عامة لا تعود إلى أوباما بصفة خاصة. صحيح أن بوش كان قد أعلن في2004 أنه من غير العملي تفكيك الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، بما يعني ضمناً أنه صار مؤيداً لبقاء معظم المستوطنات القائمة، غير أن مساعديه ظلوا يشددون على رفض سياسة الاستيطان الإسرائيلية، ولقد قلبت في صفحات أرشيفي الخاص لأجد تصريحاً مطابقاً عن الاستيطان لكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة إبان زيارتها لمدينة رام الله الفلسطينية في نوفمبر2008 تحذر فيه إسرائيل "من استمرار البناء في مستوطنات يهودية بالضفة الغربية" معتبرة أن ذلك "يضر" بآفاق السلام. لا جديد تحت الشمس إذن حتى الآن وكل "الرطانة" المستخدمة من قبل الرئيس الأميركي الجديد للتعبير عن رؤيته للحلول المطروحة للصراع العربي- الإسرائيلي تعود حصراً إلى عهد سلفه الذي لا يذكره أحد من العرب -في حدود علمي- بخير. وقد يرد البعض بأن أوباما ما زال في مرحلة بلورة سياسته تجاه الصراع، وأنه قد التقى حتى الآن الملك عبدالله الثاني وسيلتقي لاحقاً كلا من الرئيسين الفلسطيني والمصري، وأنه قد شدد بعد لقائه بالملك الأردني على "احتمال أخذ المبادرة العربية والبناء عليها للمساهمة بشكل أكبر في عملية السلام"، فضلا عن أن دوائر أميركية مسؤولة ومطلعة تؤكد نية أوباما تحقيق "انخراط قوي" في عملية السلام كأولوية لدى إدارته، واستعجال الإدارة الأميركية تحقيق السلام الشامل باعتبار أن ذلك يصب في صلب المصلحة الأميركية في المنطقة. ولا شك أن هذا كله كلام طيب، وهو بالتأكيد لا يصل إلى حد حديث أجهزة إعلام عربية عن "نقلة نوعية" في الاستراتيجية الأميركية تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، وقد "انخرط" بوش الابن قبل أوباما انخراطاً قوياً بدوره خاصة في السنتين الأخيرتين لحكمه، لكنه لم يحقق شيئاً، وحديث وقف الاستيطان الضار بمناخ السلام يتكرر منذ احتلت إسرائيل الأراضي العربية في 1967 دون أن يوقفها، فضلا عن أن الأفكار المطروحة حتى الآن ما زالت تتسم بعمومية شديدة. وأخشى ما يخشاه المرء أن يأتي أوباما إلى القاهرة في الأسبوع الأول من الشهر القادم ويعلن في خطابه عن سياسة جديدة تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي فإذا بها جديدة بالمعنى الذي ناقشته هذه المقالة، أي بمعنى خلوها في الواقع من أي جديد، ثم ينكب المسؤولون العرب على خطابه "الجديد" فيبدون إعجابهم بـ"النقلة النوعية" التي يتضمنها كما فعلت وسائل الإعلام العربية قبلهم، وقد يظهر أحدهم "تطرفه" فيقول إن بالخطاب جوانب إيجابية لكنه يحتاج إضافات وتعديلات، غير أن البناء عليه ممكن، ثم "ننخرط" جميعاً في تنفيذ سياسة أوباما الجديدة لكي نفاجأ ببساطة بأن الحكومة الإسرائيلية تقول لا، أو تغادر سدة الحكم غير مأسوف عليها، لندخل الدوامة من جديد كما دخلناها أول مرة بعد هزيمة 1967، وسيكون اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة حاضراً على أية حال للدفاع عن إسرائيل ضد أي خطر يمكن أن يتهدد أمنها. فهل يعرف المسؤولون العرب بناءً على هذا كله أين الحلقة المفقودة في كل ما يجري أمام أعيننا؟