في الآونة الأخيرة وُجهت سلسلة من الاتهامات إلى الرئيس أوباما يمكن إجمالها في التالي: إنه باع القضية للمحافظين لأنه نكث بوعوده التي أطلقها خلال حملته الانتخابية ولم يقطع مع تجاوزات إدارة بوش في الحرب على الإرهاب، بل عاد ليعتنقها اليوم. وأنه ليبرالي ساذج لتعامله بلطف مع إرهابيين يهددون الأمن القومي. وأخيراً القول بأنه مجرد رئيس يلعب دور الرجل الطيب في حين أنه لا يختلف عن سياسات إدارة بوش في محاربة الإرهاب، وهو يقوم فقط بتغليفها في خطاب يرضي الجمهور. والحقيقة أنه لا شيء من تلك الاتهامات ينطبق على أوباما، فهو رغم التركة المتشابكة التي ورثها من الرئيس بوش، وحقل الألغام الذي وجد نفسه مجبراً على الخوض فيه وسط قضايا قانونية معقدة مرتبطة بالحرب على الإرهاب، استطاع اجتياز الطريق بذكاء وحذر، وفي معظم القضايا المطروحة أمامه نجح في الاختبار. وحتى العثرات التي سقط فيها كانت مرتبطة بالتنفيذ أكثر منها بالسياسة؛ مثل فشله في تأمين موافقة الكونجرس لتمويل إغلاق معتقل جونتانامو بسبب تسرعه في ذلك قبل تمهيد الأرضية الضرورية. كما قاوم، رغم أنه أبدى استعداداً في البداية، لتشكيل لجنة مستقلة لمراجعة أساليب الاستنطاق، وهو ما كان سيحول دون التدفق التدريجي والممل لمعلومات تفضح كل يوم من كان يعرف بتلك الأساليب في واشنطن، ناهيك عن مساندته في البداية لقرار الإفراج عن صور المعتقلين قبل أن يتراجع ويرفض كشف الصور. لكن وفي الكفة الأخرى، نجد أن أوباما نجح في معظم ما قام به حتى وإن كنت أعارض بعض قراراته التي اتخذها؛ مثل تأكيده على السرية الذي التزمت به الإدارة السابقة، وتغييره لموقفه في موضوع الصور، ومع ذلك تبقى هذه القرارات محكومة بمعلومات ليست متاحة لأحد سواه. فقد تطرق أوباما في خطابه الحصيف يوم الخميس الماضي إلى كيفية التعامل مع جونتانامو والطريقة الأمثل لإغلاقه، وما إذا كان من الصائب الإفراج عن الصور والمذكرات التي توثق التجاوزات، وهي أمور كلها ترجع إلى الفوضى التي تركها وراءه الرئيس بوش. ولو أن إدارة بوش وضعت أسس المحاكمة العادلة منذ البداية ولم تصر على منح السلطة التنفيذية التي يمثلها بوش صلاحيات كبيرة على حساب باقي السلط، لما أصبح جونتانامو ذلك الرمز السيئ لاستغلال السلطة وانتهاء القانون. ولو أن بوش كذلك لم يضعف الأدلة بإعطاء الأولية لـ"تقنيات الاستنطاق المتقدمة"، لأمكننا اليوم محاكمة المعتقلين وإدانتهم. والأمر لا يقتصر على جونتانامو، بل يتعداه إلى طائفة أخرى من القضايا المعقدة التي تتعلق بالموازنة بين مبادئ الانفتاح وإكراهات الأمن، ولعله من أصعب تلك القضايا وأكثرها إثارة للجدل ما اقترحه أوباما من إقامة هيكل قانوني ينظم الحرب على الإرهاب وينشئ آلية لإبقاء المعتقلين، الذين لا يمكن محاكمتهم أو إطلاق سراحهم، قيد الاعتقال. وقد ينزعج المراقب من اقتراح أوباما القاضي بإنشاء نظام للعدالة الوقائية، لكن بالنظر إلى انعدام البدائل فإن العمل على إطلاق سراح المعتقلين الأكثر خطورة بسبب تعذر محاكمتهم، سيكون أكثر إزعاجاً، بل مصدراً حقيقياً للتوجس وتنامي المخاوف. لذا لا يمكن وصف أوباما بأنه "ليبرالي ساذج"؛ لأنه بتأكيده على أسرار الدولة وإحيائه للجان العسكرية التي تحاكم معتقلي جونتانامو، وبتصوره لآلية الاعتقال الوقائي، يكون قد انحاز إلى الجانب "المحافظ"، لكن في نفس الوقت لم يبع نفسه للمحافظين كما يتهمه البعض، لأنه أنهى استخدام "أساليب الاستنطاق المتقدمة"، وأفرج عن بعض المذكرات حول التعذيب. وتبقى التهمة الأخيرة المتمثلة في أن أوباما فقط يعيد إنتاج نفس خطاب الإدارة السابقة، لكن بأسلوب جديد، هي التهمة الأكثر سخفاً على الإطلاق، وكان أول من أطلقها "جاك جولدسميث"، مدير مكتب الاستشارات القانونية في إدارة بوش عندما كتب في مجلة "نيو ريبابليك" أن أوباما "نقل معظم برنامج بوش، بل قام بتوسيعه ولم يعدل منه سوى القليل، بل انحصرت التعديلات جميعها في إعادة تغليف البرنامج في خطاب جديد". والحقيقة أن التهمة صحيحة فقط لو اعتبرنا "برنامج بوش" الذي يتحدث عنه "جولدسميث" هو ما انتهت إليه سياسة الإدارة السابقة تحت ضغط السلطة القضائية، وبدرجة أقل ومخزية أيضاً، الكونجرس! فرغم حفاظ أوباما على المحاكم العسكرية التي وضعها بوش، فإنه (وهو ما لا يتذكره "جولدسميث") ألغى حجية المعلومات التي تُستمد عبر الإكراه، كما حد من الاعتماد على الإشاعة في القبض على المشتبه بهم ووسع حق توكيل محام للمعتقلين. وفيما أصر بوش على مقاومة أي تدخل في سلطاته التنفيذية، رحب أوباما بتقاسم السلطة والمسؤولية معبراً عن ذلك بقوله: "إن هدفنا ليس تجنب الأطر القانونية المشروعة، ذلك أنه في نظامنا الدستوري لا يمكن لرجل واحد أن يقرر تمديد مدة الاعتقال"، مضيفاً: "عندما يأتي الوقت الذي نقرر فيه بأنه على الولايات المتحدة إبقاء الأشخاص رهن الاعتقال لمنعهم من شن أعمال حربية، فسنقوم بذلك في إطار نظام يكفل رقابة القضاء والكونجرس". ـــــــــــــــــــــــــــــــ روث ماركوس كاتبة ومحللة سياسية أميركية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"