في الرابع من أغسطس عام 1997، توفيت سيدة فرنسية تدعى "جان لوي كالمان" (Jeanne Louise Calment)، عن عمر يناهز الثانية والعشرين بعد المئة، لتصبح بذلك أكبر معمرة في التاريخ. وعلى رغم أن هذه السيدة تنحدر من عائلة من المعمّرين، حيث توفي أخوها الأكبر عن عمر يناهز السابعة والتسعين، بينما توفي أبوها في عمر الثالثة والتسعين، ووالدتها في عمر الثامنة والستين، إلا أن مثل هذه الأرقام والأعمار تعتبر استثناء، وليست قاعدة في مدى عمر (Life Span) أو متوسط عمر (Life Expectancy) أفراد الجنس البشري. وهو ما أظهره تقرير صدر مؤخراً عن منظمة الصحة العالمية، وأظهر أن متوسط أعمار أفراد الجنس البشري يتراوح ما بين 41 عاماً كما هو الحال في "سيراليون" في غرب أفريقيا، و83 عاماً كما هو الحال في اليابان. وبما أن "سيراليون" تمثل الحد الأدنى في متوسط الأعمار، واليابان تمثل الحد الأعلى، تقع غالبية متوسط الأعمار بين هذين الرقمين. وإن كانت هناك أربع عشرة دولة، يعيش سكانها في المتوسط أكثر من ثمانين عاماً، وهي اليابان (83 عاماً)، وأستراليا وأيسلندا وإيطاليا وسان مارينو (82 عاماً) ، وفرنسا وآندورا وإسرائيل وموناكو ونيوزيلندا والنرويج وسنغافورة وإسبانيا والسويد (81 عاماً). بينما تقع دولة الإمارات العربية المتحدة في المجموعة التالية، بمتوسط عمر للفرد يبلغ 78 عاماً، متساوية في ذلك مع الولايات المتحدة، وكوبا، وتشيلي، والدانمرك، والكويت، وسلوفينيا. وغني عن القول إن هذه الأرقام تشكل قفزة هائلة في تاريخ تطور الجنس البشري إذا ما أخذنا في الاعتبار أن متوسط الأعمار في العصر الحجري، أي قبل أقل من خمسة آلاف عام، كان لا يتخطى ثمانية عشر عاماً. وفي بدايات الحضارات الكلاسيكية، كان متوسط الأعمار أقل بكثير مما هو عليه حالياً، حيث كان يتراوح ما بين عشرين إلى ثلاثين عاماً في زمن الحضارة اليونانية، والحضارة الرومانية من بعدها، واستمر هذا الوضع حتى العصور الوسطى، أي قبل بضعة قرون قليلة فقط. وإن كانت فترة العصور الوسطى قد تميزت باستثناء على صعيد متوسط الأعمار -غير معروف سببه حتى الآن- بين الطبقة الحاكمة في الشرق الأوسط، إبان العصور المختلفة للخلافة الإسلامية. حيث تراوحت الأعمار بين 60 و85 عاماً في الشرق الأوسط، وبين 70 و75 عاماً إبان الحضارة الإسلامية في الأندلس، وهو ما يعادل ثلاثة أو أربعة أضعاف متوسط العمر في أوروبا في الفترات الزمنية نفسها. وحتى وقت قريب، وفي بدايات القرن العشرين، كان متوسط أعمار أفراد الجنس البشري يتراوح ما بين ثلاثين وأربعين عاماً، وهو نصف متوسط الأعمار حالياً حول العالم الذي يبلغ سبعين عاماً. أي أن الجنس البشري، نجح في أقل من قرن في مضاعفة متوسط أعمار أفراده. وفي ظل حقيقة أن عدد من تتخطى أعمارهم المئة يزداد بنسبة 7 في المئة سنوياً، في بلدان مثل الولايات المتحدة، التي زاد فيها عدد المعمرين فوق المئة من 15 ألفاً إلى 77 ألفاً خلال عشرين عاماً، يتوقع أن يستمر الجنس البشري في زيادة متوسط أعمار أفراده بشكل مطرد. ولكن ما السر في بلوغ هذه الأعمار المديدة والحياة لفترات طويلة بهذا الشكل؟ إجابة هذا السؤال ليست بالسهلة أو المباشرة كما قد يعتقد البعض. فإذا ما أخذنا على سبيل المثال السيدة الفرنسية "جان لوي كلمان"، التي تعتبر أكبر معمرة في التاريخ، فسنجد أنها ظلت تدخن حتى بلوغها سن الـ119 عاماً، وأقلعت قبل وفاتها بثلاث سنوات فقط، بعد أن منعها فقدان بصرها من إشعال السجائر. هذا في الوقت التي تظهر فيه إحصائيات منظمة الصحة العالمية أن التدخين يتسبب في وفاة خمسة ملايين شخص سنوياً، مع التوقع بتضاعف هذا العدد بحلول عام 2020. ومما لاشك فيه أن الحياة الصحية، المعتمدة على غذاء صحي متوازن، وممارسة قدر كافٍ من الرياضة بشكل يومي، مع تجنب العادات السيئة مثل التدخين وشرب الكحوليات وتعاطي المخدرات، مع الحفاظ على وزن مناسب، والابتعاد عن مسببات القلق والتوتر المزمنين، تعتبر جميعها عوامل مساعدة للحياة المديدة، أو على الأقل لتجنب الوفاة المبكرة. ولكنّ هناك أيضاً فارقاً هائلا في مدى العمر بين من يلتزمون بجميع هذه النصائح، وهو ما دفع العلماء إلى التفكير في العوامل الوراثية، كقوة رئيسية في تحديد مدى عمر الشخص. وببساطة، يعتمد هذا الاتجاه في التفكير على نظرية النشوء والارتقاء، التي ترى أن الكائن الحي الذي تمكنه دفاعاته الطبيعية أو نمط حياته اليومية من الحياة لفترة طويلة من خلال تجنب الأمراض، أو الحوادث، أو الافتراس من قبل الحيوانات الأخرى، يتمتع بجينات وراثية تمكنه من إصلاح التلف الذي يحدث في خلاياه وأنسجته، مما يبطئ من عملية التشيُّخ، ويمكن الأجهزة والأعضاء من الاستمرار في العمل لفترة طويلة. وبالتالي، وكنتيجة منطقية لاستمرار مثل هذا الكائن الحي لفترة طويلة، تزداد فرصه في الإنجاب، وفي تكوين ذرية أكبر عدداً، يتمتع جميع أفرادها بمثل هذه التركيبة الوراثية القادرة على إصلاح التلف والأعطاب التي تصيب خلايا أجسامها بشكل أكثر كفاءة، وهلم جرا. أما السيدة "جان لوي كلمان" التي فسرت عمرها القياسي بأنه بسبب تناولها للخضروات وبالتحديد الثوم، وتدخين السجائر، وتجنب المشادات، فربما كان التفسير الأكثر قبولا، في حالتها، هو ممارستها لعدة هوايات رياضية منذ سنوات شبابها، مثل رياضة التنس، والسباحة، وركوب الدراجات، والتزحلق، مع قضاء عدة ساعات كل يوم في الاستماع إلى الموسيقى الهادئة المريحة للأعصاب. د. أكمل عبدالحكيم