قبل ثلاثة أيام أعلن الرئيس الإيراني نجاد عن إطلاق صاروخٍ جديدٍ بعيد المدى (=2500كلم) من فئة "سجّيل-2". وسجّيل من المفردات القرآنية التي تعني العذاب الشديد. ومن جديد صُدم الأوروبيون، وتحيَّر الروس، وقال الأميركيون إنهم لن يتجاوزوا بصبرهم على إيران آخِرَ هذا العام، وإنّ السلاح الصاروخي سوف يكون من بين موضوعات التفاوض مع إيران. وكانت الضجّة ذاتُها قد ثارت قبل عدة أشهُرٍ عندما أَطلقت إيران صاروخاً بعيد المدى في سلسلةٍ أُخرى، كما أطلقت قمراً اصطناعياً إلى الفضاء الخارجي. وموضعُ الانزعاج من الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى، هو نفسُهُ موضعُ الانزعاج من البرنامج النووي الإيراني. فالصواريخُ البعيدةُ المدى، والتي يُسَدَّدُ إطلاقُها بالأقمار الاصطناعية، والتي يصلُ مداها ليس إلى إسرائيل وحسب؛ بل إلى روسيا وأوروبا؛ لا تملكُ قدراتٍ تفجيريةً عاليةً إلاّ إذا كانت مزوَّدةً برؤوسٍ نوويةٍ أو بيولوجية أو كيماوية. ولذا فإنّ المجتمع الدولي، والقوى الكبرى، تعتبر إطلاق الصواريخ والأقمار الاصطناعية، دليلا على أنّ إيران إنما تنوي إنتاج سلاح دمارٍ شاملٍ، وإلاّ فلماذا هذه العنايةُ بإطلاق الصواريخ التي تمضي إلى آلاف الكيلومترات؟! ولنتأمل التصرفات الاستراتيجية الإيرانية خلال العقد المنقضي، والتصرفات السياسية والمذهبية خلال عقدين. في المجال الاستراتيجي، هناك عدةُ خطاباتٍ متناقضة في الظاهر، لكنْ يُكْمِلُ بعضُها بعضاً في الحقيقة. الخطابُ الهادئُ يقول إنّ إيران إنما تَسْتَخدمُ حقَّها في الوصول إلى إنتاج الطاقة النووية السلمية، وإنتاج السلاح للدفاع عن نفسِها، وبلوغ درجة عالية من التقدم العلمي من خلال التكنولوجيا العسكرية، شأنها في ذلك شأن الهند والصين، اللتين لا يمكن تعليلُ ترسانتهما النووية بشَنّ الحرب؛ بل بموقعهما في المجال الدولي، وبالاندفاع في التقدم الاقتصادي بعد الاطمئنان إلى صلابة الدرع العسكرية من خلال القوات المسلَّحة القوية. هذه الحُجّة كانت سائدةً في الخطاب الإيراني أيام الرئيس خاتمي. ووقتَها جرى الردُّ عليها بأنّ الصين والهند لا يمكنُ مقارنةُ وضْع إيران بهما. فقد كان بينهما عداءٌ كبيرٌ، وجرت حروبٌ على الحدود، وأوشكت الهند مرتين على الخسارة في الحرب التقليدية. ولذا فقد رأت الهند أنه من الضروري إنتاجُ سلاحٍ نووي. أمّا الصين فكانت قد بدأت برنامجها النووي بالاشتراك مع الاتحاد السوفييتي. وعندما تشاجرت مع الروس أَواسطَ الستّينيات، صار إنتاجُ السلاح النووي تحدياً لإثبات الوجود تُجاه الروس وتُجاه الأميركيين. ومع ذلك فالصين ما استخدمت النووي ولا الكيماوي ولا البيولوجي، لا في الدفاع عن نفسِها، ولا حتّى في استعادة أرضها. فقد استعادت "ماكاو" و"هونغ كونغ" بالتفاوُض مع بريطانيا. وما تزال تتناوشُ مع الولايات المتحدة بشأن تايوان دون أن تُهدّد حتّى باستعمال القوة. أمّا الهند فلا يذكُرُ أحدٌ فيها شيئاً عن السلاح النووي؛ بل هم منهمكون في التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وقد أنجز رئيس وزراء الهند "سينج" مع إدارة بوش الابن اتفاقاً "نووياً" يربط إنتاج الوقود والتخصيب بالولايات المتحدة مقابل إجراء سري يفعلُ الشيء نفسَه مع باكستان! وهكذا فلا شيء في الوضع الإيراني يشبهُ ما كانت عليه الأُمور مع الصين والهند في الماضي، ولا ما هي عليه الأُمورُ الآن. ثم أين هذا التقدم العلمي الذي يبدو في الشأن المدني أو الاقتصادي أو حتّى في استخراج البترول والغاز؟ ليس هناك شيء من ذلك تُمكن مشاهدتُه أو يستطيع الإيرانيون (36 في المئة تحت خط الفقر) الإفادة منه. وما تزالُ التقاريرُ الدوليةُ للخبراء تقول إنه في المجالين النووي والصاروخي، ما يزال العسكريون الإيرانيون يعتمدون على كوريا الشمالية. أمّا المتفائلون فيقولون إنّ إيران صارت تعتمدُ على نفسِها في "النووي" دون الصاروخي منذ عام 2007! وتغيَّر الخطاب أيام الرئيس نجاد، وصار الكلامُ عن أعداء لإيران على رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل، لابد من كبح جماحهم بالسلاحين التقليدي وغير التقليدي. وهذه الإجراءات "الدفاعية" الرادعة مواضيعُها ومَواطنُها الخليج حيث تتواجه السُفُنُ الحربيةُ، والحدود مع العراق حيث يتواجهُ الطرفان براً، وفي لبنان حيث قام "حزب الله" بتأديب إسرائيل وردعِها، وما يزالُ حاضراً لذلك عندما يطلبُ الوليُّ الفقيه. ولا دليل على هذا العداء المستحكم الذي يستدعي الاستنفار الدائم، والإنفاق الهائل على البناء العسكري والأمني. وقد استعانت إيران بالولايات المتحدة وإسرائيل عام 1986/1985 في الحرب مع العراق، كما أفادت من الولايات المتحدة في حربَي الأخيرة على أفغانستان والعراق. ولا يقتصر الأمر على أنّ أميركا وإسرائيل ما كانتا تخطّطان لغزو إيران؛ بل إنه عندما كانت إيران تتدخل في العراق أو أفغانستان أو لبنان؛ فإنّ الأميركيين كانوا يكتفون بالتحذير والإنذار. وإذا صدَّقْنا القول الإيراني إنهم إنما يريدون من خلال "حزب الله" وسلاحه التضامن مع لبنان وشعبه؛ فإنّ الجنوب تحرر عام 2000 بانسحاب إسرائيل منه. والمنطقة الصغيرة التي بقي فيها الإسرائيليون برمج الإيرانيون مع السوريين لكي تبقى "مزارع شبعا" تلك بمثابة مسمار جحا، أو نقطة ربط نزاع، يستطيع "حزب الله" أن يحتجَّ بها للإبقاء على سلاحه، وتستطيع سوريا أن تظلَّ تعتبر أنّ بينها وبين لبنان نقطة مشتركة في الصراع مع إسرائيل وهي وجود أراضٍ محتلةٍ لدى كليهما. لكنّ "حزب الله"- ومنذ عامين- ما عاد يذكر مزارع شبعا، بعد أن فرَّقت الأَولوياتُ بينه وبين سوريا؛ بل صار يذكُرُ أنّ سلاحه إنما هو لردْع الإسرائيليين بعد أن هزمهم عام 2006! وعندما ينسى الأمين العام لـ"حزب الله" نفسه- كما يحصل في الأَشْهُر الأخيرة- يضيف لمهامِّه مساعدة الفلسطينيين، مثلما فعل عندما أنشأ تنظيماً لذلك بمصر! وهكذا فليست لدى إيران أسباب حقيقية تضطرها للتسلُّح بدون حدود للدفاع عن نفسِها. وحتّى كسْب مناطق النفوذ، لا يشكّل مبرراً لإنفاق المليارات على سلاحٍ يستحيلُ استخدامُهُ، لأنّ معنى ذلك الاستخدام فناءُ إيران. وإنما شَأْنُ إيران، شأن الأنظمة الشمولية في الحرب الباردة. أي أنّ الإمساك العنيف بالداخل، ينبني على وجود أعداء خارجيين متربصين. وهؤلاء الأعداء لا يفهمون غير لغة القوة، وهم يحيكون المؤمرات باستمرار لإزالة الجمهورية الإسلامية. وسواءٌ أَصدَّقَ الإيرانيون ذلك أم لم يصدّقوا؛ فإنّ رجالات النظام يتعاملون مع الإيرانيين بالداخل، ومع الجوار، على أساس أنّ مَنْ لم يدعم دعاوى النظام في التهديد المُحْدِق به من جانب أميركا وإسرائيل وأصدقائهما، هو عدوٌّ أيضاً ينبغي مكافحتُه بنفس الشدة. وخطابات خامنئي ونجاد الأخيرة، على مشارف الانتخابات الرئاسية، المقصود بها كالعادة رفع درجة التوتر بالداخل في مواجهة الخارج الأميركي والإسرائيلي والعربي(السعودي والمصري)، لكي يُعادَ انتخابُ نجاد للرئاسة لأربع سنواتٍ أُخرى. وما تضرر الأميركيون من الحملات "النجادية" عليهم، كما لم يتضرر الإسرائيليون؛ بل ازدادت حججهم في ضرورة مواجهة الإرهاب إقناعاً في نظر المجتمع الدولي. إنما الذي تضرر الأمن العربي، والاستقرار العربي، والعلاقات السنية -الشيعية داخل العالمين العربي والإسلامي. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي نظّمت إيران مجموعات داخل الأقليات الشيعية بالعالم العربي. وفي لبنان استخدمت "حزب الله" أولا في الدخول على خطّ قضية فلسطين، ثم ها هي تستخدمُهُ في تعميق النزاع الشيعي -السني، والإيراني -العربي. فقد دار الأمين العام لـ"حزب الله" أخيراً على كلّ الموضوعات، وحطَّ على النزاعين الأخيرين، بحجة أنه يريد إحباط المؤامرات الأميركية والعربية في إحداثهما. فقبل أسبوعين بدأ نصر الله بالتهديد بالعودة للسابع من مايو 2008، وهو اليومُ الذي أحتلَّ فيه الحزب بيروت بالسلاح. واستدلّ على خطورة الوضْع على أَمْن الحزب ولبنان بكثرة اتصالات خصومه السياسيين بمصر والسعودية. لكنه قبل أربعة أيام كان محدَّداً جداً عندما كلَّفَ نفسَه بمهمتين معاً: تجاوُز النزاعين السني -الشيعي، والعربي -الإيراني، وعلى طريقة 7 مايو نفسِها: كُلُّ مَنْ يتذمَّرُ من العرب من التدخُّل الإيراني في شؤونه الدينية أو الوطنية؛ فإنّ تذمُّراته سوف تُزال بالقوة باعتبارها من صناعة أميركية أو إسرائيلية، و"حزب الله" حاضرٌ بسلاحه في لبنان، وبتنظيماته السرية في بلدان عربيةٍ أُخرى، من أجل تنفيذ ذلك. وقد كان نصر الله يقول قبل 7 مايو: لو قتلوا منا ألْفاً فلن نسقط في الفتنة! ثم عمد إلى احتلال بيروت لتجاوُزِ الفتنة التي اخترعها هو، وازداد تعميقاً لها بمحاولة قهر الآخَرين بالسلاح. إنّ التسارع الإيراني إلى تكديس السلاح بحجة مواجهة الأعداء، هو جزءٌ من العقلية التقليدية الموروثة من الحرب الباردة، ومن أيام الشاه، لدعم نظام الحكم من طريق حشد الشعب من جهة، وإسكاته من جهة ثانية. وهي سياساتٌ أضرَّت بالشعب الإيراني استنفاداً للثروات، وقمعاً أمنياً وسياسياً. لكنها أضرَّت أيضاً بالجوار العربي لإيران وذلك من ثلاث نواح: دعم الأميركيين (والإسرائيليين) في تصديهم" للإرهاب العربي والإسلامي" عن طريق غزو أفغانستان والعراق. وخلخلة الاستقرار بداخل الدول العربية، عبر دعم جهات معارضة أو متمردة بحجة العداء لإسرائيل أو رفع شعارات إسلامية. ونشر الفتنة الشيعية -السنية، والإيرانية -العربية، بحجة أنّ بين السنة متشددين، أو أنّ هناك أنظمةً عربيةً تعمل مع أميركا وإسرائيل ضد إيران الإسلامية! يستحضر الإيرانيون أوهاماً وأشباحاً إذن لخدمة نظامهم، ولدفع الدَوليين للتعامُل معهم على أساسٍ منها. وهم حينما يفعلون ذلك يسيئون للشعب الإيراني، وللشعوب العربية المجاورة. أمّا التصرفات المحظورة التي يقومون بها هُمْ وأتباعُهُم في العالم العربي فإنهم لا يُخضعونها لمقاييس الحلال والحرام؛ بل لدعاوى الطهورية المعصومة، وخطأ مذاهب الآخرين وارتزاقها، وعملها لصالح الأعداء!