مما لاشك فيه أن الدفاع عن الرئيس السوداني هو الموقف الوطني السليم، وليس الموقف الذي يريد الخضوع لقرار المحكمة الدولية، وليس الموقف الوسطي بين المقاومة والاستسلام، واللجوء إلى القضاء السوداني. هناك دفاع صحيح عن حق السودان يسلم به الجميع في الداخل والخارج. فالغرب يستعمل القضاء لغايات سياسية، كلمة حق يُراد بها باطل. ويمارس المعيار المزدوج بين أعدائه وأصدقائه، بين السودان وإسرائيل، دارفور وقطاع غزة، إدانة في حق طرف، وبراءة في حق طرف آخر. الغاية تفتيت السودان بعد محاولات فصل الجنوب عن الشمال، والآن محاولات فصل الغرب عن الوسط بدعوى تقاسم السلطة والثروة، والمساواة في الحقوق والواجبات، والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة والنظام الديمقراطي، والدفاع عن الشعوب ضد العدوان والتهجير والقتل والاغتصاب. وتفتيت السودان يعني إضعافه وتغلغل إسرائيل في كياناته المستقلة. فلا تخفي "حركة العدالة والمساواة" مساعدة إسرائيل لها بالسلاح، ونيتها إقامة تمثيل متبادل بينهما بعد "الانفصال". وبالتالي تسيطر إسرائيل على منابع النيل لخنق مصر. وقد امتد أثرها على الحبشة من قبل بإقامة السدود ومشاريع الري على النيل الأزرق. وكل ذلك من أجل حصار مصر في الجنوب بعد عزلها عن الشام، وجعل سيناء منزوعة السلاح في الشمال، والسيطرة على مياه البحر الأحمر في الشرق، وتحويل ليبيا من معاداة الغرب إلى مصادقته. يريد الغرب إخضاع السودان لسيطرة الاستعمار الجديد بعد أن تحرر من الاستعمار القديم، وإدخال جميع دول الرفض إلى بيت الطاعة. وصحيح أيضاً أن النَّيل من الرئيس السوداني هو نيل من كرامة السودان، والنيل من كرامة السودان هو نيل من كرامة العرب. والنيل من كرامة العرب هو نيل من كرامة المسلمين. فالقرار الدولي يضع بعض الحكام العرب في المصيدة أو في أقفاص. يحاصرهم داخل أقطارهم معتقلين لا يستطيعون التحرك إلى الفضاء الفسيح. فتوضع الشعوب رهن الاعتقال مرتين، مرة بفعل الحكام، ومرة أخرى بفعل اعتقال الحكام. وبالتالي يفقد العرب حرياتهم أكثر من مرة، مرة بفعل الحكام، ومرة أخرى بفعل القوى الأجنبية. وتحرير الأوطان واجب وطني، محكومين وحكاماً طبقاً للمثل الشعبي "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". ومع ذلك، هناك دفاع خاطئ عن النفس، يزيد الطين بلة طبقاً للمثل الشعبي "جاء يكحَّـلها عماها". وهو استعمال هيئة كبار العلماء لتبرير القرار السياسي بإصدار فتوى تحريم سفر الرئيس خارج البلاد؛ لأنه ضار به وبمصلحة الأمة. والرئيس هو الراعي لها. ثم يلتزم الرئيس بقرار هيئة كبار العلماء لأنه مسلم، والالتزام بفتوى العلماء من صحيح الإسلام. فأين كانت الهيئة الموقرة منذ صدور القرار؟ لماذا لم تصدر فتوى بضرورة تحرك الرئيس لأنه رئيس حر في دولة حرة، في عالم حر، ولا يخضع للابتزاز أو لأي قرار ظالم. وهل القرار السياسي أو تبديله يحتاج إلى تبرير شرعي؟ ولماذا استعمال رجال الدين لتبرير قرار رجال السياسة فيكون الدين تابعاً للسياسة؟ يبدو رجال الدين هنا تابعين لرجال السياسة وليسوا مستقلين في فتاواهم. ويتأكد الرأي الشائع بتبعية بعض الفقهاء للسلطان وأن من قد يُسمون بهيئة كبار العلماء ما هم سوى فقهاء السلطان. ولم يشاهد العرب في تاريخهم الحديث أن أفتت هيئة لكبار العلماء بشيء يخالف ما يريده السلطان. إن أراد حرباً مع إسرائيل في اللاءات الثلاث، لا صلح، ولا مفاوضة، ولا سلام مع إسرائيل خرجت الفتوى. وإن أراد السلطان الصلح والمفاوضة والاعتراف بإسرائيل خرجت الفتوى المضادة بالرجال أنفسهم. وبالتالي تفقد هيئة كبار العلماء استقلالها، وتتأكد صورتها في ذهن الناس أن بعضهم تابعون للسلطان منذ أن فقدوا استقلالهم كعلماء حين بايعوا محمد علي، ثم عينهم محمد علي موظفين في الدولة لهم مراتبهم في السلك الدبلوماسي. قرار عدم سفر الرئيس قرار سياسي مغاير للقرار الأول بسفر الرئيس يحتاج إلى تبرير، ورجال الدين جاهزون لذلك حتى لا يُقال لقد خاف الرئيس من أن تعترض إحدى القوى المعادية طائرته وتقديمه للمحاكمة الدولية، وإسرائيل جاهزة لذلك وفرنسا أيضاً وربما الولايات المتحدة الأميركية. هيئة كبار العلماء تابعة لقرار الحزب الحاكم الذي يأتمر بأمر الرئيس. الكل ينفذ ويطيع ولا أحد يتساءل ويحلل باستقلال تام. المؤسسات تابعة للرئيس، سواء أكانت سياسية أم دينية، والسياسية قبل الدينية. وما يحدث في المؤسسة الدينية أي هيئة كبار العلماء، يحدث أيضاً في المؤسسة السياسية، الحزب الحاكم الذي يتبع الرئيس. يقيم المظاهرات بناء على توجيهات الرئاسة ضد قرار المحكمة الدولية. ثم يقيم المظاهرات المناقضة بناء أيضاً على توجيهات الرئاسة مع عدم سفر الرئيس. وكأن الشعب آلة يتم تحريكها كما يريد الرئيس. فتفقد المظاهرات صدقيتها سواء أكانت مؤيدة للسفر أو معارضة له. ففي كلتا الحالتين القرار ليس شعبياً بل هو قرار رئاسي، وما الشعب إلا آلة للتنفيذ وإعداد الحزب الحاكم. لم يعد أحد يصدق استقلال المحكوم عن الحاكم، وأن المحكوم له قراره الخاص بصرف النظر عن قرار الحاكم. ورأي الجميع أن الرئيس هو الممثل الوحيد على المسرح السياسي، والباقي "كومبارس" له، رجال الدين أم رجال السياسة. التبعية هي العلاقة الظاهرة، تبعية رجال السياسة للحاكم، ففقدت المؤسسات السياسية استقلالها، وتبعية رجال الدين لرجال السياسة ففقدت المؤسسات الدينية استقلالها مثل الاجتهاد، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء. الغاية صحيحة، رفض قرار المحكمة الدولية، والوسيلة خاطئة، تبرير رجال السياسة للحاكم، وتبرير رجال الدين لرجال السياسة. وفي كلتا الحالتين يغيب التحليل الموضوعي الهادئ للقضية، وإعداد خطط بديلة قانونية وسياسية، قيادية وشعبية، وترك رجال الدين واستقلالهم يفعلون ما يشاءون طبقاً لما تمليه عليهم ضمائرهم، وترك تلقائية الشعب السياسية دون توجيهه من القيادة. ليست القضية في السودان قضية إغاثة محلية لسكان دارفور المهجّرين الجائعين المرضى العطشى، أو دولية مثل قضية إغاثة قطاع غزة، بل هي قضية مواطنين أي قضية حقوق سياسية، وتنمية بشرية ومادية. ليست القضية قضية توطين في قرى بديلة بل قضية إعمار القرى وتنميتها، بحيث لا يكون هناك فرق بين الوسط والغرب أو الشمال والجنوب. القضية هي مساواة جميع المواطنين السودانيين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن قبائلهم وعشائرهم، وتنظيم انتخابات حرة، والمحافظة على وحدة السودان، لغة وثقافة، ومشاركة في السلطة والثروة. وما يطبق في جنوب السودان يمكن تطبيقه في دارفور. وهو ما يصلح للعراق ولكل الأقطار ذات الأعراف والملل والطوائف المتعددة. لقد وقعت تراكمات طويلة في الأقطار العربية في حاجة إلى إعادة نظر جذرية فيها طبقاً لظروف العصر. فليست السلطة السياسية وحدها هي المحك لوجود الدولة بل حضور شعبها بكل طوائفه داخل السلطة وبالتالي داخل الدولة على قدم المساواة.