ما يجمع العرب بالأتراك جدير بأن يجعل الأمتين تحققان حضوراً إقليمياً ذا شأن، ولقد عبرت زيارة الرئيس عبدالله غول الأخيرة إلى سوريا (في الخامس عشر من مايو 2009) عن تنامي إدراك البلدين لأهمية التعاون المشترك بينهما في كل الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فسوريا بوابة تركيا نحو الشرق العربي كله، وتركيا بوابة إلى أوروبا جغرافياً وتجارياً، ويشكل البلدان نوعاً من التكامل الاقتصادي، والتواصل الاجتماعي التاريخي، فبينهما تاريخ طويل مشترك منذ أن دخل الأتراك في الإسلام أواسط القرن الثالث الهجري في زمن الدولة السامانية، وقد دخلوه طواعية بعد وصول جيوش الفتح لبلاد ما وراء النهر في آسيا بثلاثة قرون، وكان بعضهم قد دخل الإسلام في زمن الفتح. وقد أصبح الأتراك من أهم الأمم التي دافعت عن الإسلام، وظهر منهم قادة كبار شاركوا في معارك العرب والمسلمين مثل معركة عمورية الشهيرة ومعركة الحدث الحمراء، ثم في حطين وفي عين جالوت. والأتراك قادمون من تاريخ آسيوي عريق فقد حكموا الصين على ضخامتها نحو ألف عام، وحكموا الهند وروسيا وإيران. ثم أقاموا في القرن الحادي عشر الميلادي الدولة السلجوقية التي حكمت أفغانستان وإيران ثم امتدت إلى البلاد العربية. وأقاموا الدولة العثمانية العتيدة التي ظهرت آخر القرن الثالث عشر واستمرت إلى أوائل القرن العشرين، وقد حكمت مساحات شاسعة من العالم القديم من آسيا الصغرى إلى السودان وقد امتدت إلى البلقان بعد الأناضول، ثم إلى وسط أوروبا. وقد شاخت هذه الدولة العظيمة منذ أواخر القرن التاسع عشر، بعد أن تعرضت لعوامل عديدة ساهمت في انهيارها السريع. وعلى رغم أن العرب كرهوا ما حل بهم من إهمال وظلم في عهدها، لكنهم يحتفظون في ذاكرتهم القومية بموقف شهير للسلطان عبدالحميد الثاني يقتضي الوفاء أن نذكره له على رغم كل المآخذ التي كتبت عن فترة حكمه، فقد أعلن موقفاً حازماً ضد المشروع الصهيوني ورفض ما عرضه عليه "هرتزل" من أموال ودعم سياسي أوروبي وغربي مقابل أن يسمح بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وما يزال رد عبدالحميد الصارم يهز وجدان المسلمين جميعاً فقد قال: "لايدخلونها إلا على جثتي". وقد دخل اليهود إلى فلسطين على جثته. والأتراك اليوم أوفياء لهذا الموقف الشريف، وقد أشدت به في مؤتمر عام عقد في إسطنبول في العام الماضي بمناسبة الاحتفال بذكرى الدستور العثماني الثاني، وأحسب أنني أعطيت للرجل بعض حقه في خطاب ألقيته في عاصمته بعد مئة عام من التعمية التاريخية الدولية على موقفه، فكان اهتمام الصحافة التركية بما قلت واهتمام من التقيت من كبار المثقفين الأتراك معبراً عن وجدان أصيل ما يزال يحفظ هذه المكرمة ويستوحيها. وقد بدا ذلك في موقف البرلمان والشعب التركيين من الحرب على العراق حيث رفضا استخدام الأراضي التركية في العدوان على دولة مستقلة وشعب جار، وهذا موقف شريف ستبقى الأمة العربية تذكره. وكذلك كان الموقف التركي النبيل من العدوان الإسرائيلي على غزة حيث عبر الأتراك عن إخائهم مع العرب، وعن تمسكهم بالحق، ولن تنسى أجيال العرب ما قال رجب طيب أردوغان لبيريز في "منتدى دافوس"، في وقت كان فيه بعض العرب لا يجرؤون على إعلان موقف مع أمتهم! وقد تمكنت تركيا في هذه المرحلة المهمة من تاريخها المعاصر أن تقدم نموذجاً فذاً في الجمع بين الثقافة الإسلامية العريقة، وبين الحداثة الأوروبية، عبر حفاظ متين على علمانية الدولة وعلى ديمقراطية الحكم، وعلى البعد القومي. وقد أصبحت تركيا عضواً في "الناتو" منذ عام 1952، ولعل الأتراك أدركوا أن مجالهم الحيوي الضخم هو في الشرق حيث الشعوب التي تشاطرهم الثقافة والتاريخ، وأقرب الشعوب إليهم هم العرب، وأقرب العرب إليهم السوريون، فهم الجيران الأقربون. وقد تمكنت سوريا من تحويل أسباب التنافر مع تركيا (ولاسيما أواخر التسعينيات) إلى أسباب جذب، وتحولت المناطق المتاخمة إلى ميادين تواصل، وأقبل السوريون والأتراك على بناء علاقة وطيدة وصادقة تخدم مصالح الشعبين، ووصلت العلاقة الحكومية الرسمية بينهما إلى سوية العلاقات الشعبية والاجتماعية المعززة بالمصالح التجارية والاقتصادية تاريخياً. وشكل حل قضايا المياه مفتاحاً مهماً لتعزيز العلاقات الرسمية، وأفسحت الصلة الجديدة للحكومتين أن تلعب تركيا دوراً مهماً في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، وقد توقفت هذه المفاوضات بسبب العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة وبسبب عدم وجود شريك جاد للسلام. وقد عبرت سوريا عن ثقتها بالوسيط التركي النزيه، وأعلن الرئيس الأسد في خطاب رسمي أن تركيا لاعب أساسي لا يمكن تجاهله في أية عملية سلام قد تنطلق في المستقبل، وعبر عن كون التمسك بالجولان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً باستعادة الحقوق الفلسطينية كاملة بما فيها القدس وعودة اللاجئين، وهذه رسالة واضحة عن رؤية سوريا للسلام، وفيها تأكيد على الدور التركي المستقبلي. وقد خرجت العلاقة بين سوريا وتركيا من العلاقات الثنائية إلى أفق إقليمي عبر مشاريع مشتركة تخدم المنطقة كلها، ولاسيما في مجالات الطاقة وبخاصة الكهرباء والغاز. والآفاق القادمة مفتوحة لمشاركات متوقعة من إيران والعراق حيث بوسع هذا التلاقي الإقليمي الرباعي أن يجعل من المنطقة واحدة من أهم بقاع العالم. وكانت الزيارة الحكومية المهمة التي قام بها رئيس مجلس الوزراء السوري محمد ناجي العطري إلى بغداد على رأس وفد حكومي كبير (أواخر أبريل الماضي 2009) بعد نحو ثلاثة عقود من الغياب قد أبرزت إرادة سياسية مشتركة بين الحكومتين السورية والعراقية على تنمية التعاون في كل الميادين وبخاصة الاقتصادية وكثير منها له بعد إقليمي، وستعزز هذه العلاقات السعي الدؤوب إلى ترسيخ الاستقرار في المنطقة مما ينعكس بشكل إيجابي على مستقبل الأمة العربية وحل القضايا الساخنة. وستسهم في إطفاء أية حرائق مفتعلة يمكن أن يشعلها الإسرائيليون الذين يسعون إلى تمزيق المنطقة. وأحسب أن الولايات المتحدة ستقدر الدور التركي المستقبلي في إحلال السلام، وهو دور قابل للتطور، وسيمهد بقوة لتحقيق ما تعلنه الولايات المتحدة، إن كانت جادة، من تمسك بخيار السلام وخيار الدولتين، بل وتقديم مصداقية للخطاب الأميركي الجديد للعالم الإسلامي، حيث أعلن الرئيس أوباما أمام البرلمان التركي "أن الولايات المتحدة ليست في حالة حرب مع الإسلام". وقد رأينا زيارته ومشاركته في منتدى إسطنبول لتحالف الحضارات تأكيداً إعلامياً على جدية رغبته في تصفية الخلافات الأميركية مع قضايا المنطقة عبر الحوار، وهذا ما يزعج إسرائيل التي لا تستطيع العيش والاستمرار إلا في مستنقع الدماء، وعلى رغم أن الولايات المتحدة لم تمض إلى الآن مع الجموح الإسرائيلي المتشوق إلى الحرب، إلا أنني أخشى أن تورط الحماقات الإسرائيلية كل البشرية في حرب مفاجئة سيكون خطرها كارثة على الجميع.