في لقاء جميل جمع أعدادا كبيرة من الشبيبة الجامعية، دارت حوارات بينهم وبين محاضر ينتمي إلى جيل قديم حول العلاقة بين العرب والغرب، وذلك في سياق استقبال وتكريم المحاضر المذكور، عقب عودته من الغرب (فرنسا)، بعد إقامته هناك خمسة وأربعين عاماً، درس فيها ودرَّس الطب النفسي. لقد طُلب منه أن يحدِّث الحضور عن "الغرب" كما عايشه وعرفه وتأثر به. وإذا عملنا على ضبط الأفكار الرئيسية، التي قدمها المحاضر في هذه المداخلة، فإن ما يلي يطرح نفسه أمامنا: الغرب عارضٌ علينا وفي حياتنا. وهو ما دخل حياتنا إلا ليُدخل فينا الفتن والصراعات والانحرافات والنزوع الدائم إلى الشقاق، ومن ثم، هو لم يتغلب علينا بقوته، بل بضعفنا وانقسامنا. ويستدل المحاضر على ذلك بأننا كنا قبل تدخّله ودخوله في حالة من الاستقرار والتوحّد والوئام. وهو -إلى هذا- يحتقرنا ويسعى إلى الوقوف في وجه أي مشروع نسعى إلى تحقيقه في سبيل مصالحنا. ويخلص إلى أننا من أجل أن نمتلك قرارنا ومشروعنا الخاص، علينا أن نرفض الالتقاء به والتعاون معه، ومن ثم أن نكتفي بذاتنا ونعوّل على أنفسنا. وإذا كان ذلك بحاجة إلى منجزات الغرب التقنية والعلمية وغيرها، فعلينا أن نمتلك ذلك، بقدر ما نستطيع، كي نبتعد بعده عنه (الغرب)، ربما إلى درجة العزلة، على نمط ما كان قائماً في بعض الدول كاليابان والصين واليمن في عهود ماضية. ذلك ما كان المحاضر الطبيب النفساني قد قدمه في عرضه، وأعتقد أنه في هذا كان يعبر عن الشعار السياسي الشهير من مرحلة عبدالناصر بـ"الحياد الإيجابي". وحاول بعض الحضور أن يتناول واحدة أو أخرى من القضايا المطروحة بالمناقشة والحوار. لكن ظل الكثير منها بحاجة إلى المراجعة والتناول المنهجي المفتوح. وقد شاركتُ في ذلك، فاستعدتُ ماكان أحد المفكرين العرب النهوضيين الرواد قد طرحه على هذا الصعيد، أعني شكيب أرسلان. وقد أتى ذلك في نص نُشر له في مجلة (الشورى: عدد 4 فبراير عام 1921)، جاء فيه ما يلي: "لم يعهد التاريخ دوراً من الأدوار خلص من علاقة الشرقيين بالغربيين وخلطه بالشرقيين. وقد عمّ التحاكُّ جميع أحوال الحياة وأركان العمران. فقد أخذت يونان عن مصر، وأخذت بغداد من يونان. وأخذت أوروبا عن الأندلس. ثم أخذ الشرق في جدِّته الأخيرة عن أوروبا. إلا أنه لم يعرف التاريخ فيما مضى، أي قبل ظهور الآلات البخارية والكهربائية، دوراً أثبت فيه العلائق بين الشرق والغرب وارتفعت فيه الحواجز على البعد والقرب، كما في هذه الأيام الأخيرة التى رأى فيها الشرق ألاَّ قبل له بمناهضة الغرب إلا بأن يقاتله بسلاحه... إذا كنا نريد أن نتفرنج أي نقتدي بالافرنج، تحتم علينا أن نبقى عرباً". بتلك الأفكار صاغ أرسلان جوانب مهمة، بل حاسمة في العلاقة بين الشرق والغرب، وإذا كان قد تحدث عن الفريقين على أساس أن كلا منهما يمثل حالة واحدة منسجمة في ذاتها، وفق السياق المطروح لم يغلق بنْيتيْهما. والملفت فيما يقدمه أرسلان رؤيته التاريخية للعلاقة بين الطرفين، وتأكيده على أن وجود علاقة بينهما هو بمثابة حالة تتحدر من التاريخ نفسه، بحيث لا يمكن التنكر لها أو الدعوة إلى تحطيمها، بقدر ما يمكن البحث عن الإمكانات المثمرة الفاعلة التي تنتجها، وهذا ما رآه في الصيغة التي أثبتها في كلامه السابق بكيفية تُحيل إلى جدلية الداخل والخارج. قال: "إذا كنا نريد أن نتفرنج أي نقتدي بالافرنج، تحتم علينا أن نبقى عرباً". ومن شأن ذلك أن يجيب عن قضايا ملحة وشائكة راهنة، تتصدرها قضية "الهوية والذاتية"، فأن نبقى عرباً، إنما يعني البحث المفتوح والدائم عن كيفية التثاقف مع الآخر -هنا الغرب- حتى الحدود القصوى المحتملة، شرط ألا يُفرَّط بالهوية العربية على سبيل الاستباق أو الاختراق أو التزوير وغيره من أنماط التلفيق. من هنا، نضع يدنا على أن "التفرنج" -بتعبير أرسلان- إنما هو مطلب مقترن بالضرورة، بالحرية وبالندية وبالعقلانية، أي بتلك المقولات التي تُفضي إلى انجاز خطوة مركبة تتحدد في بقاء طرفي الحوار والمثقافة والتفاعل قادريْن على ممارسة ذلك كله، بعيداً عن الانغلاق والتزمت والتشدد والاستئثار.