"التعريف المحدود للانحراف" كان هو العنوان المستفز الذي اختاره السيناتور" دانييل باتريك موينيهان" لمقال نشره عام 1993، وانتقد فيه ما رآه ميلا متزايداً بين الأميركيين للتساهل نحو سلوك مواطنين آخرين، في حين أن مثل هذا السلوك كان يجب أن يكون محلاً للإدانة والتجريم أو لعدم القبول على الأقل. في بعض الأحيان، قد يكون تخفيض سقف شيء ما، أو وضع هذا السقف عند مستوى منخفض أمراً مطلوباً؛ لأن ليس كل سلوك قابل للضبط، ولا كل مشكلة قابلة للحل. فإذا ما أخذنا المسألة العراقية على سبيل المثال، فسوف نجد أن الفارق بين الرئيسين بوش الأب وبوش الابن وحربيهما مع صدام حسين لافت للنظر من ناحية، ومفعم بالمعلومات. فجورج بوش الأب، وهو الرئيس الحادي والأربعين للولايات المتحدة، عّرف النجاح بأنه يعني رد غزو العراق للكويت على أعقابه. وفي ذلك الوقت رفض بوش الأب، كافة النداءات التي كانت تدعو إلى استمرار قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ـ بعد نجاحها في طرد القوات العراقية من الكويت ـ في الزحف إلى بغداد للإطاحة بالقيادة العراقية. وكان الجانب السلبي لقرار الرئيس الأميركي بتبني تعريف متواضع للنجاح كان هو استمرار صدام في السلطة ـ حتى وإن كان قد جرى إضعافه لحد كبير. أما الجانب الإيجابي، فهو أن الولايات المتحدة بهذا القرار تجنبت التعرض لخسائر بشرية واقتصادية وعسكرية ودبلوماسية باهظة كان من المحتم أن تتعرض لها، لو واصلت القوات التي تقودها، زحفها على بغداد من أجل الإطاحة بصدام حسين واستبداله بنظام آخر أفضل. أما "جورج دبليو بوش" الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة، فقد وضع سقف النجاح عند مستوى أعلى عندما عّرف النجاح بأنه يعني الإطاحة بصدام حسين من السلطة، وهو شيء كان يعتقد بشكل جازم أنه لن يغير سياسات العراق فحسب، وإنما سياسات الشرق الأوسط برمته. ولكن ما حدث على أرض الواقع هو أن صدام أُطيح به بالفعل بكلفة عالية دون أن تتبلور المنافع المتوقعة في العراق أو في المنطقة. فليس هناك شك في أن أميركا والعالم سيكونان أفضل بكثير بدون "حرب الاختيار" هذه التي شنها بوش الابن على العراق. تقدم كوريا الشمالية نموذجاً آخر للتعريف المتواضع للنجاح. ففي يونيو من عام 1950، غزت كوريا الشمالية الجنوب، وهو ما استجابت له أميركا بالتدخل لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه بمباركة من المنظمة الأممية. كان هدف التدخل الأميركي في البداية هو رد قوات كوريا الشمالية إلى ماوراء الحدود الواقعة عند خط عرض 38. ولكن الولايات المتحدة وقعت في ذلك الوقت في خطأ، عندما قرر الجنرال "ماك آرثر" التحرك شمال ذلك الخط بعد أن استردت قواته خط الحدود، وهو ما وافق عليه الرئيس الأميركي في ذلك الوقت" هاري ترومان". لقد اتخذت الولايات المتحدة هذا القرار الخاطئ في غمرة انتشائها بالنصر التكتيكي الذي حققته بالإنزال الناجح في "انتشون"، بيد أن ما حدث في ذلك الوقت هو أنه لا الصين ولا الاتحاد السوفييتي كانا على استعداد للقبول بسقوط شبه الجزيرة الكورية برمتها في المدار الأميركي. وهكذا انضم مئات آلاف من المتطوعين الصينيين إلى قوات كوريا الشمالية، وشنوا هجوماً مضاداً لدفع القوات الأميركية للخلف. وبعد ثلاث سنوات من القتال الدموي، وخسارة ما لا يقل عن 30 ألف جندي أميركي، وافقت الولايات المتحدة على هدنة عند نفس خط عرض 38 الذي رفضت التوقف عنده من قبل، والذي لو كانت قد فعلت وقبلت بالنصر المحدود الذي حققته في مرحلة مبكرة لكان الوضع قد أصبح أفضل كثيراً من محاولتها تحقيق النجاح الكامل. وهذان المثالان وما ترتب عليهما من تداعيات، يرتبطان ارتباطاً مباشراً بمعطيات السياسة الأميركية في الوقت الحالي. وأفغانستان بالذات هي مثال دال في هذا السياق، خصوصاً في اللحظة الراهنة التي توازن فيها بين الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، والموارد التي ستضطر إلى إنفاقها، من أجل تحقيق هذه الأهداف. ويمكن تعريف النجاح في أفغانستان بعدد من الطرق التي يمكن تبيانها فيما يلي: الحد من قدرة تنظيم "القاعدة" على العمل في الأراضي الأفغانية. هزيمة حركة "طالبان" أو إضعافها على أقل تقدير، استئصال زراعة الخشخاش، وبناء الديمقراطية. والمشكلة بالنسبة لأفغانستان هي أن هذه الأهداف المتواضعة سوف تبدو طموحة، في هذا البلد الذي عرف تاريخياً بأنه "مقبرة الإمبراطوريات". ويشار في هذا الصدد أن أوباما قد اختار استراتيجية متواضعة، وليس أدنى استراتيجية ممكنة لاستهداف "القاعدة"، و"إضعاف طالبان"، وتعزيز الحكومة الفيدرالية. والتاريخ يقدم لنا درسان في هذا السياق: الأول، إذا ما كانت إدارة أوباما محظوظة بدرجة تمكنها من تحقيق هذه الأهداف، فإنها يجب أن تقاوم إغراء توسيع نطاق أهدافها. الدرس الثاني، إذا ما فشلت هذه الإدارة في تحقيق أهدافها، فإنها يجب أن تقاوم التوجه نحو توسيع جهدها خارج نطاق مستوياته الحالية، والعمل بدلاً من ذلك على تقليص نطاق ما تسعى إليه. هذا المنطق ينطبق على إيران أيضاً. فمن غير المرجح إلى حد كبير، أن تتمكن الولايات المتحدة من إقناع إيران، أو الضغط عليها، من أجل دفعها للتخلي عن برنامجها الخاص بتخصيب اليورانيوم كليةً. فأفضل ما يمكن أن تحققه أميركا في هذا السياق، هو وضع سقف أعلى لما يمكن لإيران أن تقوم به، كالحيلولة بينها وبين الاستمرار في تخصيب اليورانيوم إلى الدرجة التي تمكنها من إنتاج سلاح نووي، أو إقناعها بقبول تفتيش دولي للتأكد من التزامها بذلك. فالنتيجة هنا، كما نرى، أقل من أن تكون مثالية، ولكنها على الأقل نتيجة يمكن التعايش معها. ربما يجادل البعض بالقول إن التعريف المتواضع للنجاح يشي بعقلية انهزامية. كان يمكن لمثل هذه الحجة أن تتمتع بصدقية ما لو افترضنا أن أفغانستان أو العراق قد تحولا إلى دولتين ديمقراطيتين على النمط الجيفرسوني، وأن إيران ومعها كوريا الشمالية أيضاً قد قررتا التخلص من مشروعيهما النوويين تماماً. ولكن هذه المحصلة غير محتملة في أفضل الأحوال، ومحض أوهام في أسوأها. علاوة على أن المزيد من الانخراط والاستثمار فيهما قد لا يضمن لأميركا تحقيق ما تتوخاه من أهداف. البديل لذلك كله، هو تلك المحصلات النهائية الجيدة بشكل معقولة، والتي تتماشى في الوقت نفسه مع المصالح المراد المحافظة عليها والتكاليف التي يتم تحملها من أجل ذلك. إن اللحظة الحالية التي تجد فيها الولايات المتحدة نفسها مستنزفة اقتصادياً وعسكرياً، تتطلب التواضع في تعريف النجاح. فالأفضل لها في مثل هذه الظروف أن تحقق نجاحاً جزئياً تستطيع تحمل تكاليفه، بدلاً من التعرض لفشل ذريع لا نستطيع تحمل تكاليفه ونتائجه. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"