اللغة هي وعاء للفكر وأداة للتفكير وهي أيضاً وسيلة للتفاهم والتواصل الاجتماعي، تعطي الأمة اسمها وشخصيتها وهويتها وهيبتها وقيمتها وقوتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية. إنها أداة وحافز ورمز سياسي غاية في الأهمية. هي وسيلة تمكن الإنسان من تجاوز وجوده البدني والمادي إلى وجوده الفكري، تنقل تراث وأفكار الأمة السابقة للأجيال اللاحقة وتحفظها ليضيف الجيل الجديد بفكره ما يُكملها. قوة اللغة وحيويتها تكمن في قوة وحياة أهلها، وحسب الفيلسوف الألماني "فخته"، فإنها تؤثر في الشعب الذي يتحدث بها تأثيراً لا حدّ له يشمل التفكير والإرادة والعواطف والتصورات، وصولا إلى أعمق أعماق الذات الفردية والجماعية. لكن هل تموت اللغة؟ ومتى وكيف؟ يحدث ذلك عندما تتعرض للخطر، وهذا الخطر يتكون عندما تصبح الفجوة بينها وبين اللغة المهيمنة كبيرة بحيث تستطيع الأخيرة امتصاص الوظائف الاجتماعية الأساسية، فتفقد اللغة الأصلية وظيفتها في ألسنة أهلها، وفي حياتهم الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والسياسية. وعندها تتعرض إلى ظاهرة تأخر النمو أو يصيبها الضمور جراء الإقصاء والركود وعدم الاستخدام، كما يحدث لأي عضو في الكائن الحي حين يتم تعطيله لفترة طويلة عن العمل والنشاط. وهنا تكون النتيجة انجراف أهل اللغة الأصلية إلى اللغة المهيمنة، فتصاب لغتهم بمزيد من الضعف والضمور. تتآكل مقوماتها الداخلية، ويتناقص الناطقون بها، لذلك فإن موت اللغة حقيقة تؤكدها شواهد التاريخ. لكن في عصرنا الحالي، حسب هارلد هارمان، تفاقمت مخاطر موت اللغة وتضاعفت حالاتها بصورة درامية خطيرة إلى درجة غير مسبوقة، وخلال مائة عام الماضية عانت الكثير من اللغات. وحسب علماء اللغة فإن نصف اللغات التي يتحدث بها الناس والبالغ عددها 7000 لغة، مهددة بالانقراض، حيث يحدث سنوياً أن تموت لغة ما في العالم. وتواجه اللغة العربية حالياً نفس الخطر، وهناك مئات الأبحاث والدراسات والمقالات التي نشرت خلال عشرين عاماً الماضية، تشرح مثل هذا الخطر وتحذر منه وتؤكد على ضرورة تدارك الموقف قبل أن تصبح اللغات الأجنبية المهيمنة، وخاصة الإنجليزية والفرنسية، هي الأساس والقاعدة وتصبح العربية لغة غريبة في وطنها وبين أهلها، رهينة لاستراتيجيات التعليم التي جعلت الأجيال ممزقة بين ثقافة شكسبير وثقافة فولتير، ومكنت لّلغات الأجنبية من الهيمنة فباتت تمتص الوظائف الاجتماعية الأساسية. هناك الآن في الوطن العربي توجه يحاول تكريس مثل هذا الخطر الذي ستتضح نتائجه بعد جيل أو جيلين في وجود "طبقة غربية التوجه والانتماء"، خاصة بعد أن أصبح التعليم في غالبيته باللغة الإنجليزية، وأصبح الشخص المميز في المجتمع، وظيفياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً، هو من يتقن اللغات الأجنبية، وصارت المدارس والجامعات الأجنبية المنتشرة في مساحة الوطن العربي هي المفضلة، وأصبح التعليم في الجامعات الوطنية باللغة الإنجليزية إن الذين يظنون أن النهضة الصناعية والتقنية لا تتحقق إلا باللغات الأجنبية، هم في حقيقة الأمر واهمون، فما من أمة حققت نهضتها الصناعية والتقنية إلا بالاعتماد على لغتها القومية كأساس في كل المجالات؛ وأهمها التعليم. وفي تجربة دول المغرب العربي التي وقعت تحت الاستعمار أكثر من مائة سنة، درس يمكن استنباطه؛ فرغم أن التعليم فيها خلال هذه الفترة كان باللغة الفرنسية فإن ذلك لم يحقق لها النهضة المطلوبة، بل المزيد من التغريب والرطانة الأجنبية. وقد أثبت أحد الباحثين المغاربة أن اعتماد اللغة الأجنبية في التعليم كرّس إشكالية مكوث التلميذ في المراحل الابتدائية 9 سنوات بدل 5 سنوات، ورفع حدة التسرب والتغريب، وأنهك ميزانية الدولة. وكان اللغوي الأميركي صموئيل جونسون واضحاً عندما قال: مهما تكن السوق ضرورية ومربحة فإنها لا يجب أن تكون على حساب اللغة القومية الأم، لأنها تفسد اللغة وتضرها كما تفسد الأخلاق والتجارة. وقد أشار زعيم الهند غاندي إلى ذلك في عام 1920 عندما قال: "إن الأمة قد عانت معاناة مادية شديدة بسبب إجراءات سير العمل في الكونجرس الهندي التي تدار بشكل كامل تقريباً باللغة الإنجليزية".