تولع بعض التنظيمات والجماعات السياسية الإسلامية بفكرة "الدولة" أو "الإمارة" مستسلمة لمنطق تاريخي يتوهم أصحابه أن بوسعهم إعادة إنتاج تجربة "المدينة" التي كانت نواة لإمبراطورية إسلامية ترامت أطرافها. وينسى هؤلاء أن الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، ليس بينهم، وأن المدينة لم تكن دولة بالمعنى المتعارف عليه وإنما كانت كياناً اجتماعياً- سياسياً بسيطاً، وأن القرآن الكريم لم يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام بوصفه نبياً وملكاً في آن واحد، على النقيض من مخاطبته سيدنا سليمان عليه السلام، وأن عالمية الإسلام كدين خاتم نزل به الوحي الأمين رحمة للعالمين، تقتضي إعادة التفكير في ربط الإسلام حتمياً بالدولة. إننا ننزعج من إصرار هذه الجماعات على تفكيك الدول القائمة، لحساب نزعات عارضة وشخصية ومريضة، لا يرى أصحابها أبعد من أنوفهم، ولا يدرون أنهم في نهاية المطاف يتحولون إلى معول هدم للأمة، وخنجر مسموم في خاصرة المسلمين جميعاً. ومن بين هؤلاء حركة "طالبان باكستان" التي تضغط في هذه الآونة بشدة على أعصاب الدولة الباكستانية، وتستدرج جيشها في حرب استنزاف تدور رحاها منذ عامين، مما يعني إضعاف باكستان لحساب الهند، عدوها اللدود، وهي مسألة لو فكر فيها "الطالبانيون" لما انزلقوا إلى ما هم فيه وعليه، ولما أصبحوا في لحظة رخيصة يعملون ضد مصلحة بلدهم. إن باكستان لم تعدم الوسائل السلمية والسليمة التي تعطي أي فريق أو تيار أو حركة أو حزب سياسي داخلها طريقاً واضحاً للاعتراض على سياسات الحكومة، ومن هنا فإن كان المسلك لا يعجب "الطالبانيين" أو الأحزاب والجماعات الإسلامية كافة، وإن كان أتباعها لا تروق لهم علاقة إسلام آباد بواشنطن، أو دخول باكستان كطرف مناصر لقوات التحالف الغربية في حربها ضد حركة "طالبان" الأفغانية، فبوسعهم أن يلجأوا إلى الطرق والوسائل ذات الشرعية السياسية والمشروعية القانونية، لإعلان اختلافهم مع الحكومة، وتقديم مقترحات مختلفة، والتجهيز لبديل واضح المعالم يحل محلها بالآليات التي كفلها الدستور. ويمكن لهؤلاء أن يضغطوا في اتجاه إطلاق حوار وطني لتحسين شروط التعامل مع الولايات المتحدة، بما لا يؤثر سلبياً في المستقبل على المصالح الاستراتيجية لباكستان، كما يمكنهم أن يفكروا في مساعدة أفغانستان، وليس من يستهدف المدنيين، ويحارب فقط من أجل حيازة السلطة، مهما كان حجم الدمار الذي يخلفه في سبيل تحقيق هذه الغاية غير النبيلة. لقد طالب "الإسلاميون" في وادي سوات بتطبيق الشريعة، وكان لهم ما أرادوا، حيث أبرمت الدولة معهم اتفاقاً عبر الحكومة المحلية في الإقليم ينص على وقف "طالبان" إطلاق النار مقابل سماح السلطات بإنشاء محاكم لتطبيق الشريعة الإسلامية داخل مقاطعة "ملاقند"، فانتهت بهذا فترة من القتال والفوضى هناك. لكن "طالبان" لم تلتزم بإلقاء السلاح، واستمرت في تحدي الدولة الباكستانية، وإحراجها أمام شعبها وأمام العالم، مما جعل السلطات تتبنى هذه المرة المعادلة الصفرية في مواجهة "الطالبانيين" وتتحدث عن "اجتثاث" مهما كان هذا على حساب مدنيين، لم يرق لهم مسلك "طالبان"، وهي مسألة قد تخلق مشاكل داخلية للسلطة، مع شعب بات قطاع منه ممتعضاً من تخلي باكستان عن تصورها القديم الذي كان يسعى بجد واجتهاد كاملين إلى جعل أفغانستان ظهيراً لباكستان، ويحارب أي نفوذ للهند هناك. لكن معالجة أي خلل في فهم الحكومة وإدراكها لا يتم بإشهار السلاح، وجرح هيبة الدولة، وهي مسألة لا يفهمها "الطالبانيون" على وجه الدقة، لأنهم لا يعطون ذهنهم إلا لـ"التصورات والحتميات الأيديولوجية" التي تدفع في اتجاه إعلان "الإمارة الإسلامية" مهما كان شكلها أو حجمها أو قدراتها أو حتى قدرها المحتوم. وهذا الداء متأصل في تفكير الكثيرين من أصحاب التصور السياسي الإسلامي الراديكالي، حيث يتحدثون دوماً عن "الهجرة" و"الوطن البديل" و"الإمارة". وعلى رغم أن التصور الإسلامي المعافى من ضيق التطرف، والذي تمتثل له الأغلبية الكاسحة من المسلمين يرفض هذا المسلك، فإن فكرة إعادة إنتاج ثقافة الهجرة، لا تزال تراود قلة معزولة فكرياً، من المنخرطين في صفوف هذه الجماعات وتلك التنظيمات، بعد أن قام بعضهم بتنفيذها في أرض الواقع، مثل عبدالله السماوي وشكري مصطفى وهما من قادة الأجنحة المتطرفة لـ"الحركة الإسلامية" في مصر خلال سبعينيات القرن المنصرم، وأسسا هذا السلوك على اعتبار أن المجتمع يعيش "جاهلية" جديدة، حسبما زعم سيد قطب في كتابه الصغير "معالم في الطريق". وإذا كان الأخذ والرد مع معتنقي هذه الفكرة في مصر قد هز يقينهم في التمسك بها، وجعل الكثيرين يراجعون موقفهم، فإن مثل هذا "الاشتباك الفكري" لم يتوفر لمن تركوا أرض العرب طيلة عقد كامل من الزمن، امتد من 1979 إلى 1989 من أجل "الجهاد" في أفغانستان. فبعد الخروج الذليل للاتحاد السوفييتي المنهار من أرض الأفغان، لم يجد بعض الشباب العربي، الذي سلك إلى كابول دروباً معلومة وبتدبير أميركي متفق عليه، الأبواب مفتوحة للعودة إلى الديار. وإذا كانت قلة قد تسللت عبر النوافذ الضيقة، ودخلت إلى أوطانها الأم، لتواجه الاعتقال أو الملاحقة الداخلية، فإن الأغلبية فضلت البحث عن الخيار المر، وهو "الوطن البديل". ولم يجعل الانقلاب الذي شهده السودان في أغسطس من عام 1989، هؤلاء يتحيرون طويلا في تحسس مواضع أقدامهم الباحثة عن "وطن بديل". فالنخبة الجديدة التي وصلت إلى سدة الحكم في الخرطوم رفعت شعارات "إسلامية" بلغت في طموحها حد تصور إمكانية قيام "أممية" أو على الأقل الحلول محل التنظيم الدولي لجماعة "الإخوان المسلمين". ومن ثم كانت وجهة "الأفغان العرب" هي السودان، خاصة بعد أن تمكن بن لادن من الذهاب إلى هناك. فلما توغل الأميركيون في أرض الصومال عام 1992 تحت لافتة ما يسمى "التدخل الحميد"، وجد "الأفغان العرب" أنهم أمام فرصة جديدة لـ"الجهاد" ضد الدولة التي كانت قبل ثلاث سنوات فقط تمثل الظهر الأقوى والأهم في مساندتهم، فذهبوا إلى الصومال، نزولا من السودان أو إبحاراً من اليمن، الذي كانت جباله الوعرة، ملاذاً لكثير من هؤلاء. ومن هنا اتسعت أمامهم رقعة "الوطن البديل" لتشكل مثلثاً جغرافياً، قاعدته السودان ووتراه اليمن والصومال، مع بعض الهوامش في كينيا وتنزانيا. لكن هذا الوطن الموزع على قارتين وثلاث دول لم يكن آمناً بأي حال من الأحوال، وإنما كان مكاناً عابراً لهبوط اضطراري من قادة "الأفغان العرب" وأتباعهم. فلما استولت حركة "طالبان" على أفغانستان، وأزاحت الفرقاء من مجاهدي الأمس، لاح في الأفق المكان الآمن، الذي تظلله توافق الرؤى، ووحدة التصور والمصير، فشد الشباب الرحال إلى هناك. ومن هنا جاء ضرب سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، بعد سلسلة هجمات محدودة نسبياً ضد أهداف أميركية في منطقة الخليج، ليجر الحليفان (طالبان والعرب الأفغان) إلى مواجهة صريحة مع القوى الكبرى في عالمنا المعاصر. فلما وقع حدث الحادي عشر من سبتمبر دفعت الولايات المتحدة بجيش جرار إلى أفغانستان، وأزاحت "طالبان" عن الحكم، فأزالت بالتالي وطن "القاعدة"، وشتتت عناصرها في البلاد. وجاء غزو العراق ليفتح أمام فلول "القاعدة" طريقاً آخر إلى "وطن بديل"، أسموه "إمارة العراق الإسلامية"، التي تتآكل الآن لأنها مجرد وهْم، كما هو الحال في "إمارة سوات" التي ينهي الجيش الباكستاني حالياً وجودها تماماً.