تعرض العمل الخليجي المشترك لامتحان صعب الأسبوع الماضي بعد انتهاء القمة التشاورية واختيار الرياض كمقر للبنك المركزي الخليجي، على رغم وجود الأمانة العامة لدول المجلس والعديد من المؤسسات المشتركة هناك. دولة الإمارات التي تملك الأحقية في استضافة مقر البنك المركزي لاعتبارات عديدة تعاملت مع مسألة الاختيار بحكمة وسجلت موقفاً هادئاً ومسؤولا من خلال تحفظها على عملية الاختيار، فمن بين عشرين مؤسسة مشتركة موزعة على دول المجلس لا توجد مؤسسة واحدة فوق الأراضي الإماراتية، في الوقت الذي تشكل دولة الإمارات ثقلا سياسياً واقتصادياً كبيراً داخل المنظومة الخليجية. والسبب في ذلك أن الإمارات التي شهدت عاصمتها تأسيس مجلس التعاون تعاملت خلال الثلاثين عاماً الماضية بروح أخوية بناءة فلم تعترض على رغبة أي من أشقائها في طلباتهم الخاصة باستضافة المنظمات الخليجية المشتركة، ولم تدخل في منافسة مع أحد لاستضافة هذه المؤسسات الخليجية. وأما الإصرار الحالي الخاص باحتضان مقر المصرف المركزي الخليجي، فنابع من الموقع المميز والمكانة الاقتصادية الرفيعة التي احتلتها الإمارات في العقد الماضي، وتحولها إلى مركز تجاري ومالي في المنطقة، وتواجد معظم الشركات والمؤسسات الاقتصادية العالمية في دولة الإمارات. ولاشك أن هناك خللا ما قد حدث في عملية الاختيار ولابد من معالجته بطريقة أو بأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار الحكمة التي تعاملت بها دولة الإمارات والتي لم تخرج عن نطاق التحفظ وتغليبها للمصالح المشتركة لدول المجلس ومحافظتها على الإنجازات التي تحققت والتي تعتبر مكسباً كبيراً للجميع. والحقيقة أن مقر المصرف المركزي لا يضفي أهمية كبيرة للمدينة المضيفة وهذا ما تشير إليه تجربة الاتحاد الأوروبي، فالكثير من الأوروبيين لا يعرفون أين يقع مقر المصرف المركزي الأوروبي، كما أن وجود المقر في فرانكفورت الألمانية لم يرفع من المكانة الاقتصادية والمالية لهذه المدينة، التي تعتبر منذ سنوات وقبل نقل المقر إليها العاصمة الاقتصادية لألمانيا. وبالإضافة إلى ذلك، احتفظت البنوك المركزية الأوروبية في بلدانها بمهام أساسية لا زالت وستظل تمارسها حتى في ظل وجود المصرف المركزي الأوروبي، الذي حددت مهامه في رسم السياسات النقدية وتنسيق جهود الدول الأعضاء. وهذه مسائل لا يقررها مركز المقر أو المحافظ، وإنما مجلس النقد المكون من كافة البلدان الأعضاء في الاتحاد النقدي. ولذلك، فإن وجود المقر في هذه المدينة أو تلك لا يعني الكثير من الناحية الفنية، فالإمارات ماضية في برنامجها وسياستها الاقتصادية بوجود مقر المصرف المركزي الخليجي أو بدونه، إلا أن المسألة بالنسبة لها كانت مسألة أحقيّة وعدل في توزيع المؤسسات التابعة لدول المجلس. ومعالجة هذا الخلل أمر ممكن من خلال وضع بعض الضوابط، كاستثناء دولة المقر من تعيين محافظ للمصرف المركزي الخليجي ومنح صلاحيات أكثر للمجلس النقدي الذي يحدد السياسات النقدية للمجموعة الخليجية. وفي الوقت نفسه تعزيز القرارات الجماعية التي يتخذها مجلس النقد وتعزيز الثقة المتبادلة في المؤسسات المشتركة، وهذه مسألة تقع على عاتق الاقتصادات الأكبر بصورة أساسية، التي يجب عليها القيام بدور محوري في هذا الاتجاه. إذن يبدو أن موعد إصدار العملة الخليجية الموحدة سيؤجل لإعادة ترتيب الأولويات الخاصة بإصدار العملة الخليجية الموحدة وحتى يتم حسم المسائل المعلقة، بما فيها اتخاذ الإجراءات الإدارية والانضباطية واعتماد توزيع أكثر شمولا لمؤسسات المجموعة الخليجية، كما هو حال التوزيع الشامل لمؤسسات الاتحاد الأوروبي. والمهم الآن هو أن يعمل الجميع على تجاوز الصعوبات المستجدة، وأن يمارس مجلس النقد الذي أقر في قمة مسقط الأخيرة مهامه وصلاحياته لإصدار العملة الخليجية الموحدة التي ستضيف الكثير للاقتصادات الخليجية المتنامية، فدول المجلس تقدم تجربة تكاملية مميزة وناجحة على رغم بطئها، حيث يتطلع أبناء دول المجلس إلى تعزيز هذه التجربة وتطويرها. إن الحكمة الإماراتية في معالجة هذه التطورات تتيح الكثير من الإمكانيات الصادقة لمعالجة هذا المطب، وذلك حفاظاً على المكاسب الجماعية التي لا يمكن تطويرها إلا من خلال تكامل المجموعة الخليجية، التي يتوقع أن تحتل مكانة اقتصادية بارزة على المستوى العالمي في السنوات القادمة، مما سينعكس إيجابا على كافة دول المجلس.