بعد الاحتفالية التي أقامتها "اليونسكو" في الدوحة بالتعاون مع "مركز الدوحة لحرية الإعلام"، مؤخراً، والتي تطرقنا لها في المقال السابق، حدث حراك صحافي غير متوقع على خلفية دعوة صاحب الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة، وهو الدنماركي "فليمنغ روس"؛ وأيضاً على ضوء الكلمات التي ألقيت خلال بدء الاحتفالية. وقد تليت في الاحتفالية عدة كلمات جعلتنا نشعر بأن الحرية سوف تهبّ علينا هبوب "الصبا" مع إشراقات الصباح، وتملأ رئاتنا بالهواء النقي الصالح للحياة. وأننا سنصحو لنجد أن لأقلامنا أجنحة من فولاذ، وأن مدادَها من نور لا تستطيع كل "ظلاميات" العالم حجبه أو نفيه. ولعل واقع المقالات التي نُشرت بعد الاحتفالية يشهد كم نحن بعيدين عن تلك الأماني في تلك الاحتفالية دعت حرم صاحب السمو أمير دولة قطر إلى "تعزيز ثقافة الحوار بين الشعوب وليس بين النخب". وهي إشارة واضحة لضرورة إخراج الحوار من "جحور" المؤتمرات الضيقة والخانقة إلى فيافي الشعوب، واعتراف بحق الشعوب في اختيار حواراتها، وتعزيز دور الشعوب في مصائرها وشجون حياتها. كما أكد وزير الثقافة ورئيس مجلس حكماء مركز الدوحة لحرية الإعلام الدكتور حمد الكواري على أن الإنجازات الكبرى في مجال الإعلام وحريته قد تحققت! مشيراً إلى أن "تأسيس مركز الدوحة لحرية الإعلام جاء كإضافة تستند الى لوائح حقوق الإنسان بالتوازي مع مراعاته واحترامه للأديان السماوية والقيم الروحية والثقافية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية". وكان الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني رئيس مجلس إدارة "مركز الدوحة لحرية الإعلام" قد افتتح مؤتمر اليوم العالمي لحرية الصحافة، منوهاً بدور حرية الإعلام وأهمية الوعي بتعزيزها، وضرورة حماية الإعلاميين في أداء مهمتهم النبيلة، مشيراً إلى أن "دولة قطر تدرك أن الطريق أمامها ما زال طويلا؛ وهي تعمل جاهدة على إرساء ثقافة حرية الإعلام الحقيقية القائمة على الوعي بآماد هذه الحرية وحدودها، وبقيم المسؤولية الاجتماعية للإعلام". هذا كان الخطاب الرسمي في تلك الاحتفالية، أما في جانب الخطاب الشعبي أو الأهلي، فقد تفاوتت ردودُ الأفعال حول مفهوم حرية الإعلام وحول دعوة الصحافي الدنماركي "فليمنغ روس" إلى الدوحة. فقد هاجمت صحيفتان قطريتان "الشرق" و"الوطن" دعوة الصحافي الدنماركي، واعتبرتا حضوره استفزازاً لمشاعر المواطنين وغيرهم من المسلمين. كما تحدث القرضاوي يوم الجمعة عن تلك الدعوة قائلا: "ما كان لقطر أن تقوم باستقبال ذاك الصحفي، بالرغم من أن أحد المسؤولين القطريين قد اتصل بي وقال إن الزائر من الدنمارك محرر في الصحيفة وليس الرسام الذي رسم الرسوم المسيئة، وإنهم لم يكونوا يعلمون أنه من ذات الصحيفة، ولكن الجهل في هذه القضايا والغفلة ليسا عذراً". واعتبر القرضاوي أن تلك الرسوم إساءة لأمة كبرى وهي رسوم مقززة لا يقبلها دين ولا منطق ولا خلق. كما انصبّت ردود الأفعال الغاضبة على مدير مركز الدوحة لحرية الإعلام "روبير مينار" وأنه استخدم منصبه في المركز للإساءة لمشاعر المسلمين بدعوة الصحافي الدنماركي. وخلال لقائي بـ"روبير مينار" بعد المؤتمر أشار إلى أنه متمسك بالقيم العليا لحرية الصحافة، وأنه يواجه صعوبات عديدة في أداء عمله المهني من بعض الأطراف! وعلى رغم أنني حاولت الإشارة إلى أنه من واجب "الضيف" الالتزام بشروط وظروف المضيف، إلا أنه قال بحماس: "لقد عرضتُ شروطي عليهم مسبقاً وأنا في باريس وقبلوها؛ لذلك أنا أمارس دوري المهني، ولن أتوقف؛ بل لن أرد على كل الاتهامات غير المُبررة التي طالت مركز الدوحة لحرية الإعلام وطالتني شخصياً". وخلال لقائي أيضاً مع موظفين قطريين يعملون في المركز لمستُ أن علاقاتهم بمدير المركز ليست على ما يرام، وأن لديهم ملاحظات عديدة حول عمل المركز. بل عرفت أنهم يعملون من موقع آخر غير الموقع الذي يعمل منه مدير المركز!. وعشية عقد المؤتمر الخاص بحرية التعبير سَطّر قطريون بعض المقالات التي تناولت الموضوع. ومنها مقال بعنوان "لا لتكميم الأفواه" بقلم الكاتب محمد فهد القحطاني، في جريدة "الشرق" (6/5/2009)؛ حيث أشار إلى أن "ما يقال في أروقة المؤتمرات بطعم المَنّ والسلوى، وما يُطبق على أرض الواقع بنكهة الحنظل. فهل يُعقل أن نستقبل هذا اليوم العالمي لحرية الصحافة ونحتفل به في عقر دارنا وهناك عدد من الأقلام القطرية مكسورة بفعل فاعل؟ لماذا غابت عن سماء الإبداع وحرمت من حق التعبير أقلام نسائية قطرية لم ترتكب من الخطيئة ولم تفعل من الجرم إلا حقها في إبداء رأيها في الشأن العام المحلي". وتلك ربما إشارة إلى توقيف مقالات إحدى الكاتبات. وتناول الكاتب نواف بن مبارك بن سيف آل ثاني في عمود له بجريدة "الراية" الموضوع نفسه، مشيراً إلى أن "ممارسة الحقوق من قِبل الصحافيين والكتاب لأسُس الديمقراطية يجب أن تقابلها واجبات تجاه المجتمع الذي ائتمنهم على إيصال رسالة معينة، لا استخدام المنبر للسباب أو تمزيق النسيج الذي يربطنا ببعضنا بعضاً كإخوة ومواطنين". وكتبت عائشة عبيدان في عمود لها بجريدة "الراية" (10/5/2009) تحت عنوان "أهكذا تكون الحرية؟" تقول: "إن استضافة الصحافي الدنماركي المُسيء للرسول العظيم، صلى الله عليه وسلم، ووجوده على أرض المجتمع أصبح موضع استنكار واستفزاز لمشاعر الكثيرين في المجتمع". وتضيف "هكذا صبغة مجتمعنا الذي أصبح مرتعاً خصباً لكثير من المتناقضات والإفرازات الفكرية والسلوكية والشخصية الغريبة عن قيمنا وتقاليدنا ومبادئنا، والتي تسير بخطاها دون محاسبة". ونقول، إننا نعتقد أن الحرية تبدأ من قبولك للرأي الآخر المُخالف لرأيك. وعدم تجاوزك حق الآخرين في التعبير عن آرائهم. هذا إذا أردت أن يَحترم الآخرون رأيك. والحرية -دوماً- ينبغي ألا تعيش في مناخات التوجس وسوء التفسيرات أو الإسقاطات المتحفزة للإيقاع بصاحب الرأي؛ واستحضار "نظرية المؤامرة" في كل مقال. وفي حقيقة الأمر، فإن ما يُطرح في افتتاحيات المؤتمرات والندوات في كثير من البلاد العربية يخالف جداً ما يحدث أثناء النقاش أو ما بعد تلك المؤتمرات والندوات. كما نلاحظ تدخل أطراف معينة في تحديد مسارات النشر الصحافي، ولعل أهم ما يواجه صفحات الرأي هو سطوة الإعلان والارتباطات المصالحية لبعض المؤسسات والشركات العامة التي تتعرض لنقد شديد من قبل الكتاب. وعشية كتابة هذا المقال تداولت مواقعُ قطرية بياناً تضامنياً مع صحفي قطري قيل إنه أوقف من عمله. ولعلنا اليوم بحاجة إلى متابعة دؤوبة لتوصيات المؤتمرات والندوات التي تعقد في البلاد العربية، بل إن الحاجة ماسة إلى التحقق من حالات الاجتراء على الصحافيين أو الكُتاب، الذين توقف مقالاتهم ولا توجد مرجعية لهم كي يلجأوا إليها. والأهم من ذلك أن علينا استيعاب سقف الحرية التي نتحدث عنها، وما هي حدودها وما هي نتائج تجاوز تلك الحدود؟ فكما المسؤولية الاجتماعية تطلُّ برأسها كل لحظة، فإن رأس الحرية لا يجوز أن يُطلب في كل تفسير سلبي أو خاطئ لأي رأي بحيث تكون المسؤولية الاجتماعية بمثابة المقصلة التي تهوي على رأس الحرية بسرعة قبل التحقق أو التحقيق. وينبغي ألا تطغى المسؤولية الاجتماعية على حرية التعبير، ومتى تم هذا الطغيان، فإنه يخرج الصحافة عن مضامينها الأساسية، وتتحول إلى حلقة جديدة من حلقات "توم" و"جيري".