نقصد بسياسات العولمة تحديد المجالات التي يتصارع فيها مختلف الفاعلين، سواء في ذلك الدولة أو الشركات دولية النشاط، أو المؤسسات الدولية، أو مؤسسات المجتمع المدني، وفقاً للتعريفات التي تتبناها كل منها للعولمة، وفي ضوئها تصوغ استراتيجياتها، سواء لتعميق العولمة أو لمقاومتها. وقد نشأت لتعميق العولمة في ظل سياسة الليبرالية الجديدة مؤسسة متميزة هي "منتدى دافوس"، الذي يضم رؤساء الدول ومديري الشركات والبنوك الكبرى وكبار الإعلاميين وأبرز المثقفين، والذي يجتمع سنوياً لمناقشة موضوعات شتى تدور حول توسيع أطر العولمة وضمان تدفق موجاتها في مختلف أنحاء العالم، بحيث تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. كما نشأت مؤسسة أخرى مضادة لدافوس anti – Davos وهي المنتدى الاجتماعي العالمي world social forum، الذي يضم رؤساء الدول والاقتصاديين والسياسيين والمثقفين، الذين يعارضون سياسات العولمة. وهذا المنتدى استطاع تنظيم مظاهرات حاشدة ضد ممارسات العولمة الرأسمالية المتوحشة، وأصبح له تأثير فعال في صياغة وعي اجتماعي عالمي، يتسم بتبني نظرة نقدية للممارسات العالمية. ومعنى ذلك أن نقد سياسات العولمة بدأ مبكراً، وقد يكون ذلك مواكباً لبروز هيمنتها على سياسات الدول. وقد أثر هذا النقد في مواقف الدول النامية التي تخوض صراعاً عنيفاً داخل أجنحة منظمة التجارة العالمية، في محاولة منها لتعديل النصوص المجحفة بها في معاهدة المنظمة. غير أن الأزمة المالية الأميركية التي سرعان ما تحولت لكي تصبح أزمة اقتصادية عالمية، تجعلنا نتساءل: هل من شأنها أن تدفع دفعاً لتجاوز عتبة نقد العولمة إلى محاولة مراجعة سياساتها؟ قبل الإجابة على هذا السؤال الاستراتيجي، دعونا نبدأ أولا بتحديد بعض الاتجاهات العامة التي تميز الحقبة التاريخية التي يمر بها العالم. وأول هذه الاتجاهات أن معظم حكومات اليوم تقاوم محاولات الأسواق للسيطرة عليها، وخصوصاً أنها لم تفقد كل أوراقها الاستراتيجية التي يمكن أن تستخدمها. ومن الخطأ في الواقع تصوير العلاقة بين الدول والأسواق باعتبارها علاقة صراعية، ذلك أن هناك علاقة تبادلية إيجابية بينها، فالدول تحتاج إلى توسيع إطار الأسواق لأغراض التنمية الشاملة، كما أن الأسواق تحتاج إلى دعم الدول في كثير من الجوانب. ويمكن القول إنه بالنسبة لعديد من القادة السياسيين، بما في ذلك الاشتراكيون الديمقراطيون، فإن التعامل مع العولمة لا يعبر عن "سياسات العجز" بقدر ما يعبر عن "سياسات التكيف" مع العولمة، حتى أنه يمكن التأكيد أن قلة من الحكومات اليوم هي التي لا ترحب بمزايا السوق الكوني، ولم تعد نفسها لقبول منطق المنافسة في حقبة الليبرالية الجديدة. ومن تأثيرات العولمة البارزة في الاقتصادات المصنعة المتقدمة، قبول فكرة أن المواطنين لن يتاح لهم بعد الآن اليقين نفسه بالنسبة لضمان العمل، كما سبق أن أكد عالم الاقتصاد الأميركي "جيرمي ريفكين" في كتابه "نهاية العمل" الذي أثار ضجة عالمية، وتطبيق ذلك على العمال المهرة وغير المهرة على السواء، وكذلك بالنسبة للخدمات والضمانات الاجتماعية التي سادت في ظل نظام دولة الرعاية الاجتماعية. وعلى رغم أن العولمة قد تكون خلقت فرصاً للعمل أكثر من تلك التي ألغتها، إلا أنه يمكن القول إن تأثير العولمة كان ضاغطاً على وجه الخصوص بالنسبة للعمل المنظم في قطاعات التصنيع التقليدية في الدول الصناعية القديمة. والواقع أن العمل -على عكس رأس المال والتكنولوجيا والمعرفة- ليس متحركاً، مما أدى إلى الإنقاص من قوته السياسية، ولهذا نتائج وآثار على السياسة في المستويات المحلية بالدولة. وهكذا يمكن القول إن الحكومة -في هذا الإطار العولمي الجديد- تطبق كثيراً من السمات التي يطلق عليها البعض "الإدارة العامة الجديدة" سعياً وراء تنظيم "عمل الحكومة" وفقاً للخطوط التي تسير عليها "حكومة الأعمال"، مما يترتب عليه وهن سلطة الدولة وشرعيتها. ولعل مبعث ذلك أن أسبقيات الدولة تتمثل في اكتساب ثقة الأسواق الدولية. غير أن ثمن هذا التحول في وضع الدولة كان باهظاً، وذلك أنه نتج عنه تضعضع سلطة الدولة ذاتها. وقد أدى ذلك إلى بروز المطالب العرقية والدينية واللغوية لجماعات متعددة، تركز على هذه الأنماط المتعددة من الانتماءات، مما جعلها تعلو على اعتبارات الانتماء للدولة القومية. وهذا التطور لا يتماشى مع المنطق السياسي لثنائية اليسار واليمين، التي دعمت في الماضي نظام دولة الرعاية الاجتماعية. وهذه التغيرات في مجال الهوية والفعل، اتخذت شكلا سياسياً واقتصادياً محدداً، تمثل في تنوع المجالات التي يتم فيها الصراع بين الدولة وهذه الجماعات. ويتحدث دارسو ظاهرة العولمة عن بزوغ مجتمع كوني، أو بعبارة أخرى مجتمع عالمي. وبنفس الطريقة غير المحددة يتحدثون عن "الفاعلين خارج نطاق الدولة" ودورهم المهم في تنمية هذا المجتمع. والحقيقة أن هناك اختلاطاً فيمن يسمون "فاعلين خارج نطاق الدولة"، فبعض الباحثين يخلطون المنظمات التي تنظم العلاقات بين الحكومات ومثالها البارز منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي وغيرهما، بالمنظمات غير الحكومية مثل Green peace "السلام الأخضر"، مع شركات دولية النشاط مثل شركة "موتورولا" على سبيل المثال. غير أن نمطاً أشمل من التحليل قد يميل إلى أن يضع في اعتباره أيضاً دور النقابات العمالية وجماعات الضغط، ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى شبكات السياسات ومجتمعات السياسات التي تعمل الآن عبر الحدود، وإن كان ذلك بطريقة شبه منظمة وغير مقننة. غير أن الأهم من كل ذلك، أن هذه المؤسسات تثقل كاهل الأشكال المختلفة للسلطة الحكومية، سواء سلباً أو إيجاباً. وبغض النظر عن أهداف هذه المنظمات أو الهيئات أو الشركات، أو بنيتها المؤسسية، أو طريقة عملها، والتي لا يمكن التمييز بدقة على ضوئها بين منظمة وأخرى، فالمحصلة النهائية تعقيد الطبيعة المتغيرة للسلطة في نظام عالمي للحكم، يتسم بكونه يتطور بسرعة فائقة. ولأن ظاهرة تقلص سيادة الدولة في عصر العولمة -نظراً لتعدد الفاعلين خارج نطاق الدولة- بالغة الأهمية، فمن الضروري -كما يقرر بعض ثقات الباحثين- إجراء تصنيف لهؤلاء الفاعلين على مستوى اهتماماتهم الموضوعية أو الوظائف التي يقومون بها. وعلى هذا الأساس يمكن تصنيف الفاعلين خارج نطاق الدولة في فئتين عريضتين: الفئة الأولى، الفاعلون من دوائر القطاع الخاص، الذين يتمثلون أساساً في الشركات دولية النشاط والشركات العابرة للقوميات. والفئة الثانية هي المنظمات التي لا تهدف إلى الربح، والتي تمتد من المنظمات الأهلية أو التطوعية إلى ما يطلق عليه الجماعات العابرة للقوميات أو العابرة للمناطق الجغرافية. ومن الواضح أن كلتا هاتين الفئتين العريضتين، تغطيان مجموعة غير متجانسة من الفاعلين، يتسم كل منها بسمات محددة، لا يمكن تحديدها تحت العنوان الفضفاض بكونها تعمل خارج نطاق الدولة. وأياً ما كان الأمر، فإنه يبقى أمامنا أن نجيب على السؤال الذي طرحناه: هل آن الأوان للعبور من مجال نقد العولمة إلى ميدان مراجعة سياسات العولمة؟ في تقديرنا أنه بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تعني على وجه التحديد سقوط نموذج الرأسمالية المعولمة، فإن الحاجة تدعو إلى مراجعة جذرية لسياسات العولمة ليس فحسب في مجال إعادة تحديد العلاقة بين الدولة والسوق لكفالة دور أساسي للدولة في الرقابة، ولكن أيضاً بالنظر إلى السلبيات المتعددة التي ترتبت على ممارسات العولمة في العقود الماضية. وهكذا أكد عدد من رؤساء دول أميركا اللاتينية الذين اجتمعوا في مدينة "بيليم" Belem في يناير الماضي، ومعهم عشرات الآلاف من الاشتراكيين وأنصار البيئة من معارضي العولمة أن تأسيس عالم آخر مختلف مسألة ممكنة! وكأن لسان حالهم يقول لزعماء العولمة الرأسمالية، ألم نقل لكم من قبل إن الليبرالية الجديدة لن تنجح في أن تطبق قيمها وسياساتها على العالم؟