عالم الانثربولوجيا الألماني (المختص في الدراسات المصرية القديمة) "جان اسمان" أصدر مؤخراً كتاباً مهماً بعنوان "العنف والتوحيد"، تعرض فيه لإحدى الإشكاليات التي كثيراً ما ترد في الأبحاث الاجتماعية الراهنة، وهي إشكالية السمة العنيفة الملازمة للديانات التوحيدية بحسب الصورة الرائجة. وفق هذا التصور، تتميز الديانات التوحيدية الثلاث بفكرة احتكار الحقيقة والخلاص، في مقابل الديانات الوثنية والديانات غير الإلهية (أي لا تقول بوجود إله خالق)، مما يفسر ميلها للإقصاء والعنف ورفض الديانات المغايرة. ويذهب المفكر الفرنسي – الجزائري محمد أركون إلى هذا الرأي، مستنداً إليه في تفسير ظاهرة "التطرف الإسلامي"، التي يرجعها إلى ما اسماه بالدائرة الانثروبولوجية الثلاثية: العنف – المقدس – الحقيقة . فهذه المكونات مرتبطة عضوياً، باعتبار أن الحقيقة المقدسة لا يمكن إلا أن تنتج العنف والتطرف. يدحض عالم الانثربولوجيا الألماني "جان اسمان" هذه الأطروحة، من خلال الدراسة المقارنة للديانات، مبيناً أن العنف الديني لا علاقة له بالاعتقاد أو الإيمان بالإله الواحد، وإنما بالمعطيات السياسية التاريخية. فالعنف مرض عانت منه الديانات التوحيدية في مراحل متأزمة من تاريخها، لكنه في الواقع يتعارض جذرياً مع منظومتها اللاهوتية – المعيارية. وليس من الصحيح أن الديانات الوثنية المتعددة الآلهة أكثر تسامحاً وقبولا للآخر من الأنساق التوحيدية. فالآشوريون والمغول الوثنيون في الماضي، عرفوا بدمويتهم وقسوتهم، وأقسى الحروب الدينية الراهنة تدور في سريلانكا بين التاميل الهندوس والأكثرية البوذية. ومن المفارقات المثيرة أن عالمة الانثربولوجيا الأميركية المشهورة "مارجريت ميد"، كادت تفقد حياتها خلال إقامتها في قبائل السماو، إثر تعرضها لاعتداء عنيف من أفراد القبيلة الوثنية، التي أرادت أن تثبت ميلها الفطري للسلم والتسامح، في مقابل "عدوانية "المسيحية الأوروبية الغازية. ومع ذلك لا يمكن أن ننكر واقع الحروب الدينية والصراعات العنيفة التي ارتبطت بصدام العقائد والملل التوحيدية. ومن الواضح أن ثمة ميلا واسعاً في الأدبيات الغربية إلى حصر "الميل للعنف" في الإسلام، في مقابل التقليديين اليهودي المسيحي (نشير هنا إلى خطاب البابا بينديكت السادس عشر في راتسبون في سبتمبر 2006). فعلى الرغم من أن النصوص التوراتية تضم الكثير من المقاطع التي تتحدث عن حروب أنبياء إسرائيل ضد خصومهم من القبائل والملل الأخرى بلغة شديدة القسوة والعنف،كما أن العقائد اليهودية تنضح بأحكام التمييز والإقصاء والعدوانية ضد "المغاير"، فإن بعض المفكرين اليهود قدموا قراءة مختلفة للنصوص التوراتية من منظور أخلاقي ينظر لليهودية كعقيدة اصطفاء وتميز لا بالمفهوم الاستعلائي المتعصب، وإنما بمقاييس التميز القيمي. ولعل أهم من برز في هذا الاتجاه هو الفيلسوف الفرنسي المعروف "امانيل لفيناس"، الذي رأى في اليهودية فكراً للاختلاف والمغايرة المطلقة، (ومن ثم سمة الانفتاح وقبول الآخر)، على عكس المسيحية التي بلورت مقولة الذاتية الاستبطانية التي تكرس الهوية المغلقة والوعي المتمحور حول نفسه. أما الإسلام، فاعتبره ديانة يمتزج فيها السياسي بالديني، وبالتالي لا يمكن أن تنبذ العنف وتتخلى عن الحرب والعدوان (كرر المستشرق البريطاني العجوز برنارد لويس هذه الصورة عن الإسلام التي انتشرت على نطاق واسع في أدبيات المحافظين الجدد الأميركيين في عهد الرئيس السابق بوش الابن). وذهب بعض المفكرين المسيحيين في منحى آخر، دفاعاً عن المسيحية، معتبرين أنها الديانة الوحيدة التي أنتجت القيم الإنسانية بفضل عقيدة "التجسد"(السمة الإلهية الإنسانية المزدوجة لشخص المسيح) التي تفسح الطريق أمام المقاييس العقلانية النقدية والنظم العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة، في الوقت الذي عانى الطابع الكوني في اليهودية من اختلالات عقيدة "الاصطفاء"، واتسم الإسلام بالطابع التجريدي المفارق للإلوهية، (يرجع هذا التصور لعالم الاجتماع الألماني الأشهر ماكس فيبر، وقد دافع عنه بقوة في الآونة الأخيرة الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي مارسل غوشيه). ومن السهل دحض النظرة إلى الإسلام في هذه المقاربات، التي لئن اتسمت بطابع علمي براق، إلا أنها تعكس موقفاً دفاعياً تمجيدياً للذات، ليس من العصي إبراز خلفياته اللاهوتية الملتبسة. وليس من همنا في هذا الحيز تبيان أوجه التسامح والانفتاح في النص الإسلامي وفي مدونته العقدية والتشريعية، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الإسلام يتميز داخل التقليد التوحيدي بخصائص ثلاث كثيفة الدلالة هي : إقرار حرية الوعي والاعتقاد، واعتبار الاختلاف حالة وجودية وإنسانية مقصودة ومقبولة، ونزع القداسة عن الطبيعة واعتبارها مدى مسخرا لمعرفة الإنسان وتصرفه، نزع القداسة عن الدولة ورفض مقولة الدولة المجسدة للدين واعتبارها شأناً تدبيرياً إنسانياً صرفاً. فالإشكال المطروح هنا ليس إذن إشكالا عقدياً، فلا يمكن تناول موضوع العنف الديني خارج السياق التاريخي، لكون الدين، مهما كانت طبيعته ومرجعيته العقدية والقيمية، يتحول إلى ظاهرة إنسانية اجتماعية عندما يتنزل في واقع الناس ويخضع لتأويلاتهم ويتلبس رهاناتهم الجماعية. ولقد ارتبطت النزاعات والحروب العنيفة بالديانات لسبب بديهي، هو أن الدين كان يشكل في الماضي المقوم الأساسي للشأن الجماعي والمصدر الوحيد للشرعية وأساس المرجعية القيمية المشتركة. تتساوى في هذه الحقيقة الديانات الوثنية التي هي في الغالب ديانات قبلية أو قومية، والديانات التوحيدية التي شكلت الكيانات الإمبراطورية الكبرى في تاريخ الإنسانية. وإذا كان الطموح الرسالي الكوني يدفع بالديانات التوحيدية إلى نشر دعوتها بالقوة والسيف أحياناً، فإنها وحدها التي أفرزت فكرة الحرية لارتباط هذا المفهوم ببعد المفارقة والمطلق ،كما أنها وحدها القادرة على بلورة تصور إنساني للمساواة بين البشر لتماثلهم في العلاقة بالخالق الواحد. ومن هنا ندرك أن الثقافة البوذية غير الإلهية التي يقدمها البعض بديلا عن الأنساق التوحيدية غير مؤهلة ميتافيزيقيا لإنتاج فكرة الحرية لغياب بعد المفارقة فيها وانبناء تصورها للوجود على النموذج الدائري الحركي (يفسر بعض المختصين في الحضارة الصينية الإرث الاستبدادي الممتد في الصين بهذا العامل النظري). ومن الجلي أن أكثر الحروب تدميراً ووحشية في العصر الراهن لم ترتبط بالديانات التوحيدية بل بالإيديولوجيات العلمانية اللادينية كالنازية والشيوعية الستالينية التي أرادت افتكاك وظيفة الدين السابقة في المجال العمومي دون أبعاده الروحية الرحبة. وكما يقول رجيس دوبريه "إن أخطر الديانات هي تلك التي تجهل خلفياتها الدينية ...وذلك هو حال الإيديولوجيات الكبرى في القرن العشرين".