في كتاب "الحضور والمثاقفة.. المثقف العربي وتحديات العولمة" يُحدد الكاتب محمد محفوظ دور المثقف في مجتمعه، وأثر تفاعله مع هذا المجتمع، على اعتبار أن المثقف جزء من المجتمع وليس وصياً عليه! "والمثقف عندما يكون صوته عالياً ويطالب بالتغيير والتطوير ومحاربة التخلف وكل أشكال الجهل والانحطاط؛ فهذا لا يعنى أنه ادّعى الوصاية على قيم التقدم والتنوير والتنمية؛ وإنما هو يسعى من موقفه إلى القيام بدوره، وصنع حقيقته ومعطياتها المناقضة لما هو ممقوت من الواقع السائد". إن المثقف ليس صبياً مشاكساً، بل إنه إذا لم يتحمل مسؤولية التنوير وإصلاح الأخطاء فإنه يتخلى عن دوره الأساسي؛ ويصبح بائعاً للإعلانات التي نراها عند إشارات المرور. وهنالك إشكالية كبرى في المواجهة بين المثقف وبعض الدوائر الرسمية في الوطن العربي أو حتى بعض فئات المجتمع التي تُؤثر الدعة ولا تشارك المثقف همومه وتطلعاته؛ بل ولا تتفاعل مع أطروحاته التي يُخرجها أساساً لدعم القيم الجميلة في مجتمعه، ولعل أهم ملامح ذلك هو التخليق الإبداعي -في أي من المجالات الأدبية- بهدف تدعيم قيم الجمال والعدل والخير. يقول محفوظ: "أما تراخي الفئات الاجتماعية الأخرى عن القيام بدورها في هذا المجال فليس مُبررِاً لاتهام المثقف بدعوى وصايته على شؤون الأمة والوطن. صحيح أن المثقفين العرب اليوم يعانون من أزمة في دورهم ومسارهم التاريخي؛ ولكن هذا لا يعني أن أزمات الأمة وإخفاقات مشروعات النهوض والتقدم فيها سببها المثقف وإصراره على دوره التاريخي ونموذجه المعرفي". وهذا الحديث يحتاج إلى قراءة متأنية حول دور المثقف في المجتمع! ولكن ينبغي أولا تحديد مَن هو المثقف؟ إن المصطلح مرتبك في العالم العربي. هل المثقف هو القارئ والكاتب الجيد والمخرج الجيد والرسام الفنان المُطلع؟ هل هو الموظف الرسمي في هيئات الثقافة؟ هل هو الإنسان الملتزم الفاضل -الذي يسعى إلى الرقي بمجتمعه وبلاده نحو مصاف الدول المتحضرة عبر الثقافة وعمق التجربة- في جميع المجالات؟ هل هو غير الملتزم المنطلق غير المبالي بالحدود والقيم وتقاليد المجتمع أو الثائر عليها، والذي قد تنطبق عليه ملامح بعض أدباء وفناني العصر العباسي الذين عُرفوا بالمجون وكل أشكال الثورة على الأنماط السائدة في جميع مناحي الحياة وليس الأدب فقط؟! إذن لابد من تحديد المصطلح كي يتم التفاهم حول سلوك هذا المثقف ودوره أيضاً! وقد يلتبس علينا المصطلح ونخلط بين موظف العلاقات العامة في المؤسسات الثقافية والروائي المبدع أو المخرج الفنان أو التشكيلي الباهر. وأن ما يقوم به هؤلاء العاملون في المؤسسات الثقافية ينسحب على المثقف المبدع! وتلك إشكالية خطيرة! وقد درجنا -في بعض المحافل الثقافية- على مشاهدة بعض موظفي مؤسسات الثقافة في الصف الأول من الفعاليات؛ بينما قد لا يجد المثقف الحقيقي بطاقة دخول للفعاليات؛ أو لا يجد من "يحتفي" به قدر الاحتفاء بالموظفين الرسميين! وقد يكون سبب هذه الإشكالية تقادم الرؤى التقليدية التي تجعل لموظف بسيط في مؤسسة ثقافية الحق في مكتسبات المبدعين الذين يظلون في بيوتهم، أو يكون بعضهم أسرى موثوقية العلاقة بينهم وبين بعض القائمين على الشأن الثقافي الرسمي! وإذا ما تبدل المسؤولون تبدل سلوك التعامل مع المثقفين، وتم استبدال ذوي الحظوة منهم بآخرين ينالون الحظوة ذاتها.. وهكذا! وفي هذه النقطة بالذات نحن بحاجة إلى أن نضع قوائم محددة للمثقفين في كل بلد، ونحسن اختيار ممثلينا -حسب تخصصاتهم- دون الاتكال على درجة الحظوة والصداقة وغيرها من الأمور التي لا يمكن أن تعتبر مُسوّغاً صادقاً ومؤثراً لذلك التمثيل. يقول سقراط "دع من يريد تحريك العالم لكي يحرّك نفسه أولا"! وبذلك فإن الشرط الأساسي لبلوغ درجة الثقافة الحقيقية هو القدرة على الفعل والتغيير. أما القراءة السلبية والكتابة السلبية فلن تخلقا مناخاً ثقافياً، ولن تسهما في الحراك الثقافي. وهما تماماً مثل استخدام الكتب الغالية والكبيرة في ديكورات المنازل. إننا بحاجة إلى تحديد مهام المثقف وإعطائه دوره المناسب. إذ ليس المثقف بالضرورة هو كل من يحمل فكراً وعقلا مثقفاً ويقوم بترديد ما يحفظه ذاك العقل "المحدود" في كل محفل أو محاضرة. بل إنه الإنسان الذي يبتكر ويُضيف إلى الأفكار السابقة؛ ويكون قادراً على الحكم على مصداقية الأفكار والرؤى التي يقرؤها. لذلك فإن من أولى مهام المثقف: "أن يكون قادراً على تحديد المواضيع والمساحات والربط بين الموقف الشخصي والموقف العام". وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة مأسسة الثقافة! لأن المثقف لن يستطيع إقامة علاقات وثيقة مع المجتمع دون وجود قنوات محددة تحقق تقدم ونمو تلك العلاقة. وقد تكون هنالك معوقات إدارية لدوره المنشود. إن وجود المؤسسات الثقافية الجادة -حتى وإن كانت خاصة- ولدينا نماذج ناجحة في الوطن العربي -وفي الخليج خصوصاً ارتبطت ببعض رجال الأعمال الطيبين الذين يحاولون الارتقاء بمجتمعاتهم- يساهم في حيوية وتنوع الثقافة. وهذه المؤسسات هي التي ترفد جهود الثقافة الرسمية، وترفع شكل الثقافة "الديكورية" إلى درجة التفاعل. وكم نحن بحاجة إلى أكثر من مؤسسة ثقافية يقوم عليها رجال الخير المخلصون؛ كي تعمل بعيداً عن الروتين وحتميات واقع الثقافة في كل بلد. ومازلنا نؤكد على دور المثقف في المجتمع؛ ونلاحظ -في بعض الحالات- تهميشاً للمثقف الذي لا يرسل "إعلاناته" الثقافية عبر وسائل الإعلام، ولا يتوسل عبر الثقافة! وهذه قضية تحتاج إلى مناقشة عامة. كما أن الإصدارات التي تؤرخ للحياة الفكرية والثقافية تحتاج إلى دراسة أعمق؛ إذ ليس كل باحث يستطيع الإلمام بكافة صنوف الأدب والإبداع؛ وعليه فإن الوضع يتطلب أن تكون هناك قاعدة بيانات لكل المبدعين والمثقفين في كل بلد، وتغذى هذه القاعدة بجميع البيانات الخاصة بالمثقف والمبدع ومجالات إبداعه وما أخرجه من إنتاج. وهذا يصب في اتجاه تخليق المجتمع الفاضل المتفاعل مع المثقف الجاد. ونأتي إلى دور الثقافة في تخليق المجتمع الفاضل وتهذيب الذات. إننا لا نستطيع استيعاب فكرة المثقف الوصولي أو المجامل أو المداهن أو غير المنصف أو ناقل الحديث السيئ أو "الفهلوي" الذي يفهم في كل شيء والآخرون لا يفهمون أو المتحزب أو الساعي لتخريب المجتمع، أو الأسود القلب أو كاره النجاح لغيره. إن المثقف ما لم يكن صاحب قضية ويدافع عن جوانب الحياة المضيئة التي تدخل البهجة والسعادة في حياة المجتمع فلا يمكن اعتباره ضمن دائرة الثقافة الحقيقية. والمثقف الذي لا يدرك قيمة إسعاد الآخرين ولا يتعب في إظهار المفيد المُمتع لهم، فلن يكون في نهاية الأمر أكثر من "ببغاء" يكرر ما يحفظه في كل مناسبة، كما تقدم. إن إيمان المثقف بالقضية التي يدافع عنها يرتبط بدواخله وسيكولوجيته وتاريخ معيشته ونبل أخلاقه وقدرته على الاضطلاع بدوره التنويري وإشاعة روح المحبة وكل القيم الجميلة مثل: المحافظة على المال العام والابتعاد عن المكونات السلبية للشخصية المنحرفة، والحياد والموضوعيه في تناول قضاياها خصوصاً إن كان ذاك المثقف ناقداً أو مؤتمناً على الإبداع الثقافي. إن المثقف الجاد في هذه الحالة يتحول إلى مصلح اجتماعي وإن عاش في ركن مهمل في بيته أو تواصل مع المجتمع دون أن يراه الآخرون. إن الثقافة واحة تُبنى على طهارة النفس ونقاء الروح وحب الآخرين وصفاء الضمير. وهذه الواحة ينبغي أن يدخلها "بسلام" كل المؤمنين بأدوارهم ممن لا يلبسون الأقنعة الخادعة التي تؤدي في النهاية إلى سوء الاختيار أو وجع القرار الخاطئ!