كلما أتت إدارة أميركية جديدة تحتاج إلى وقت للتعرف على القضية الفلسطينية، أسبابها ومشاكلها والحلول الممكنة لها. فالإدارة جديدة، ووزيرة الخارجية لم تسبق لها زيارة المنطقة وهي في وضع المسؤولية. ترسل مبعوثيها من وزارة الخارجية لتستمع إلى الأطراف، وتجمع المعلومات، وتنصت جيداً لمطالب الطرفين. وما زالت منذ 1948 تتعرف على القضية، وتنصت وتسمع وتتعلم كالتلميذ الذي لا يفهم أو الذي يعلم ويدعي الجهل أو الغباء. فإذا ما تم التعلم وجمع المعلومات انتهت فترة الإدارة الأميركية قبلها بعام، واستعدت للانتخابات الجديدة، وتصبح مشغولة بها، وليس لديها وقت للانشغال بالآخرين. فإذا جاءت إدارة جديدة تحتاج هي أيضاً إلى وقت كي تتعلم وتنصت وتجمع. وإذا كانت الإدارة القديمة فقد نسيت ما تعلمته في زحمة الانتخابات، وتحتاج إلى وقت إضافي كي تتعلم من جديد خاصة أن الأمور على الأرض في فلسطين قد اختلفت بانقسام القطاع عن الضفة، والخلاف بين "حماس" و"فتح"، واتساع رقعة الاستيطان، وتهويد القدس، وزيادة الحواجز في الضفة، وتشييد الحائط العازل، ثم عدم توقف المقاومة عن إطلاق الصواريخ، وتهريب السلاح عبر الأنفاق من جنوب قطاع غزة، ممر فيلادلفيا. ما زالت تتعلم ماذا يدور في الضفة والقدس من استيطان، وتوغل وهدم للمنازل واغتيال. وفي الوقت نفسه هي تعرف جيداً إسرائيل، احتياجاتها من الدعم المالي والسلاح واستيطانها والجدار العازل، وكم عدد الصواريخ التي سقطت على جنوبها ولم تضرها على عكس ردود أفعال إسرائيل المبالغ فيها بالقصف براً وبحراً وجواً، هدم المنازل، وتجريف الأراضي... إلخ. والاستخبارات الأميركية لديها ملفات عن كل شيء، عن كل صخرة ومنزل في فلسطين. وتجمع المعلومات من القاصي والداني، من إسرائيل ومن غيرها. وفي ما يُنشر عن فلسطين في الجامعات ومراكز الأبحاث الأميركية من قبل العرب الأميركيين ما تفيض به المكتبات. وما تقدمه الأقمار الاصطناعية ووسائل التجسس الحديثة لا تمتلكه أجهزة استخبارات دول أخرى بما في ذلك مصادر المعلومات العربية. وما أكثر الكتب والدراسات والرسائل الجامعية التي تزخر بأدق المعلومات عن فلسطين، شعباً وأرضاً وثروات وتيارات سياسية وقوى شعبية من خبراء شرق أوسط وعلماء في مراكز الاستخبارات يعرفون العربية، ويزورون المنطقة لجمع المعلومات بطريقة مباشرة ولمعايشة القضية. وما أكثر ما تناولته أجهزة الإعلام الأميركي في برامجها عن القضية الفلسطينية، بحيث أصبحت مصطلحاتها شائعة في اللغات الأجنبية. إنما الهدف هو شراء الوقت وكسب الزمن، رفع الشعارات دون تحقيقها. فقد رفع شعار الدولتين عبر ثلاث إدارات، بوش الأب وكلينتون وبوش الابن. والآن الإدارة الحالية. منذ الاعتراف المتبادل وبداية المفاوضات في مدريد وأوسلو نهايةً بأنابوليس. والعرب قوم كلام وشعب شعارات. يظنون الكلام واقعاً. الكلام جزء من البلاغة وهي صناعة عربية. الكلام يهدئ المشاعر، ويخفف الانفعالات. ويعبر عن أمنيات ورغبات. وإسرائيل لا تتكلم ولا ترفع شعارات وما أكثرها في الثقافة الإسرائيلية، أرض الآباء والأجداد، أرض الميعاد، الميثاق، العهد، الوعد، بل تعمل. تستوطن الضفة الغربية وتهوّد القدس وتهدم المنازل، وتجرف الأراضي، وتحفر تحت المسجد الأقصى، وتطرد السكان. والعرب يقابلون ذلك بالكلام، بعبارات الإدانة والشجب. التحدي في الفعل، في الضغط والتأثير، في التخلص من جماعات الضغط اليهودية على مراكز اتخاذ القرار الأميركي، وفي إحلال مراكز الضغط العربي مكانها، الثروات، الموقع الاستراتيجي، الأسواق، الاستثمارات، العودة إلى المبادئ الأميركية في الدستور وإعلان الاستقلال ومبادئ الثورة الفرنسية وتحرير العبيد، ومساواة المواطنين جميعاً أمام القانون في الحقوق والواجبات، ووثيقة حقوق الإنسان التي على أساسها أخذ الأميركيون الأفارقة حقوقهم المدنية، والإنصاف للحق وليس مناصرة القوة، أميركا الآباء المؤسسين وليس أميركا الأبناء والأحفاد المحرفين للوعي الأميركي أولا قبل الهيمنة على العالم وإشعال الحروب ثانيا. وبحساب المصالح الأميركية على الأمد الطويل هذه المصالح مع العرب وليست مع إسرائيل، ومنطقة الشرق الأوسط منطقة حيوية للمصالح الغربية. وخلق إسرائيل وسطها زاد من العداء للغرب عامة وللولايات المتحدة خاصة بانحيازها السافر لإسرائيل، وبانكشاف المعيار المزدوج في الممارسات الغربية والمبادئ والأخلاق الغربية. ومسار التاريخ منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 ثم توسعها في 1956 باحتلال سيناء ثم انسحابها منها، ثم احتلال سيناء والضفة والقطاع والقدس في 1967، وصولاً إلى حرب الاستنزاف 1968- 1969 وحرب أكتوبر 1973، ومقاومة بيروت في 1982، وتحرير جنوب لبنان في 2000، ومعركة "حزب الله" في يوليو 2006، وغزو غزة عام 2008- 2009 ، كل ذلك المسار، يوحي بأن المؤشر بدأ في النزول، وأن القوة انتهى عصرها، وأن الجيش الذي لا يقهر أسطورة لم يعد يصدقها أحد. وإسرائيل لا تستطيع أن تحارب طول الوقت. فالمناهضون للحرب وتصور إسرائيل كقوة استعمارية في المنطقة يتزايدون عاماً وراء عام على رغم تصاعد اليمين الإسرائيلي كظاهرة وقتية خوفاً من مبادرة السلام العربية وتمسكاً بعنصرية واستعمار قديم حددهما هرتزل في "الدولة اليهودية" في أواخر القرن التاسع عشر. ومنطق القوة محدود بطبيعته في حين أن منطق الحق دائم. وإذا خرجت أجيال جديدة أخرى أكثر تطرفاً في إسرائيل فبدافع الخوف، ولكن يأمل أفراد أجيال جديدة أن يكونوا أكثر اعتدالًا ويطرحوا سؤال: هل هم جزء من المنطقة أم غرباء عنها؟ هل هم مستعمرون مستوطنون أم عرب يهود من أهل البلاد مثل العرب النصارى يعيشون في البلاد كما عاشوا عبر تاريخهم الطويل في القاهرة وبغداد والقيروان والمغرب، وعاشوا فترتهم الذهبية في الأندلس؟ ولن يترك الفلسطينيون حقهم طال الزمن أم قصر. وتخرج أجيال جديدة من الفلسطينيين ممن شاهدوا المأساة في غزة، وشعروا بالظلم الواقع عليهم والذي وقع على آبائهم وأجدادهم من قبل. ويتزايدون عدداً. ففي ظرف خمسين عاماً سيفوق عددهم عدد اليهود في فلسطين بعد أن تبدأ الهجرات اليهودية المضادة بحثاً عن مكان أكثر أماناً واستقراراً. وهم أحرص على الحياة من الموت في حين أن الفلسطينيين أحرص على الموت من الحياة. وقد مكث الفرنجة في بلاد الشام قرنين ونصف قرن ثم عادوا إلى بلادهم. واحتلت القدس عدة مرات من طرف الفرس واليونان والرومان والبريطانيين واليهود ثم انتهى الأمر بتحريرها. وفي كل مرة تعود إلى أيدي العرب. لم تأخذ السلطة الوطنية شيئاً إلا رموز الدولة وأشكالها: السلطة، الدولة، الشرطة، المجلس، الحكومة، الوزارات، المقعد في الأمم المتحدة، العلَم والنشيد، ولكن تغزوها قوات الاحتلال الإسرائيلي. تداهم بيوتها، وتغتال، وتعتقل أعضاءها، وتقيم الحواجز والجدار العازل، وتطرد السكان، وتبني المستوطنات تحت بصر الجميع. فهي دولة بلا سلطة، وسلطة بلا سيادة. وإسرائيل تشتري الوقت لتبتلع الأرض، وتزيد عدد المستوطنين، وتطرد السكان العرب، وتهوّد القدس حتى لا يوجد شيء يتم التفاوض عليه. ويتعود العرب على الوضع حتى يصبح الفلسطينيون في الأراضي المحتلة مثل الفلسطينيين في الجليل والناصرة في تجمعات 1948. ويكتمل المشروع الصهيوني مؤقتاً في فلسطين التاريخية قبل أن يمتد من الفرات إلى النيل. لذلك مهمة العرب عدم بيع الوقت، واسترداد ما ضاع منهم، والعمل وليس الكلام، والعمل على اجتراح بدائل عن مبادرة السلام العربية التي رفضتها إسرائيل منذ إعلانها في قمة بيروت، وحصار إسرائيل داخلياً برفض التطبيع، وخارجياً بتقديمها إلى محكمة الجرائم الدولية لما فعلته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وموازين القوى في الخارج ليست دائمة. ولا دوام إلا للحق الذي تسانده القوة.