الحقيقة التي تقول إن ما يزيد على 300 عراقي قد لقوا مصرعهم بسبب العنف خلال شهر أبريل المنصرم تؤشر على أن الأمن في العراق لايزال حلماً بعيد المنال، وأن هذا البلد الممزق، لم يفق بعد من آثار الحرب التي أطاحت بصدام عام 2003، ولا من آثار الاحتلال المستمر منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. أوباما قال إنه ينوي سحب معظم القوات الأميركية من العراق في موعد غايته أغسطس 2010، لكن عدم الاستقرار الكامن في هذا البلد، والذي رأينا مظاهره في العنف المتجدد خلال الآونة الأخيرة، يثبت بوضوح أن أي عملية انسحاب أميركية متعجلة، يمكن أن تثير حرباً أهلية، وهي الشيء الذي يخشاه العراقيون دوماً. هناك عدة مشكلات كبرى لاتزال دون حل ويمكن بيانها فيما يلي: التسوية المنشودة والتي لا تزال أبعد ما تكون عن التحقيق، بين السنة والشيعة، والتوصل إلى اتفاقية بين العرب والأكراد بشأن منطقة كركوك الغنية بالنفط، وتمرير قانون الهيدروكربونات، بواسطة البرلمان العراقي، وهو القانون الذي يحدد مقدار دخل النفط الذي سيتم توزيعه، وإيجاد حل للتوتر الدائم بين الجماعات الشيعية المتنافسة، وخصوصا بين المالكي زعيم حزب "الدعوة"، ومنافسيه في "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق". والمشكلة الأكثر إلحاحاً من غيرها، والتي ربما تقع في قلب العنف الحالي، هي تلك المتعلقة بكيفية التصرف مع الأعضاء السابقين في قوات صحوة "أبناء العراق"، التي يبلغ تعدادها 100 ألف مقاتل جندهم الأميركيون من أجل التصدي لـ"القاعدة". في أكتوبر الماضي، حولت الولايات المتحدة مسؤولية الإشراف على تلك القوات إلى الحكومة العراقية، التي وعدت بدمج أعضائها في قوات الأمن الوطني العراقية، والاستمرار في دفع رواتبهم. ولكنها لم تحافظ على تلك الوعود، وهو ما أدى إلى خلق قدر هائل من السخط، وإحساس عميق بالتعرض للخيانة لدى أعضاء "الصحوات"، أدى بدوره إلى وقوع عدة صدامات بين أعضاء "الصحوة" السابقين وبين قوات الجيش العراقي التي قبضت على عدد كبير منهم. وهبوط أسعار النفط بمعدلات كبيرة، وعمليات خفض الميزانية التي أجرتها الحكومة العراقية، وإحجام إدارة أوباما عن ضخ كميات كبيرة من الأموال في عملية إعادة إعمار العراق، كانت تعني جميعا تقلص كمية الأموال التي تحتاج إليها الحكومة العراقية لحل هذه المشكلات. على الرغم من هذه المشكلات العويصة، تمكن المالكي من البروز كقائد قوي بعدما لعب على ورقة القومية العربية، وتسامى على الانقسام الطائفي، بشكل لقي ارتياحاً كبيراً لدى العديد من العراقيين. وعلى الرغم من الموجة الجديدة من التفجيرات الانتحارية ، فإن المالكي نجح في استرداد قدر من الأمن، الذي أصبح الهدف الذي تنشده غالبية العراقيين بعد سنوات من العنف الدموي المريع. وقد تمكن المالكي أيضاً من بناء وحدات جيش، وشبكة من القادة العسكريين الكبار الذين يدينون له بالولاء، كما تمكن من كسب القواعد الشعبية من خلال "مجالس الدعم العشائرية" التي شكلها. ومراقبو المشهد السياسي العراقي، ينتظرون في الوقت الراهن رؤية ما إذا كان المالكي سيتمكن من تشكيل تحالف قوي للدرجة التي تمكنه من الفوز في الاستحقاق الانتخابي المحدد له ـ نظرياً على الأقل ـ شهر ديسمبر المقبل. أما أعداؤه فيخشون أن يتحول المالكي، عندما يتمكن من توطيد سلطته، إلى ديكتاتور على النمط العراقي المعتاد. من المفهوم جيداً في الوقت الراهن أن غزو العراق، قد تم على أسس زائفة، والمزاعم القائلة بأن صدام كان يطور أسلحة دمار شامل، لم تكن سوى حجة واهية لشن عدوان عسكري على تلك الدولة، التي كانت في الوقت الذي تم فيه ذلك العدوان، قد أصبحت جاثية بالفعل على ركبتيها بفعل العقوبات التي كانت قد استمرت آنذاك لثلاثة عشر عاماً. وليس هناك شك في أن تشيني نائب رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت، كان يحلم بسيطرة بلاده على حقول النفط العراقية، التي كان يرى في ذلك الوقت أنها يمكن أن تشكل معادلا لحقول السعودية. في مقابل ذلك، كان "رامسفيلد" وزير الدفاع الأميركي، يريد حربا صغيرة يجرب من خلالها نظرياته الاستراتيجية الهادفة إلى جعل القوات المسلحة الأميركية أصغر حجما، وأسرع حركة، وأكثر عنفا في الضرب. وما كان يمكن لرؤية تشيني أو رامسفيلد أن تسودا، لولا وجود فريق "المحافظين الجدد"، الموالي لإسرائيل داخل الحكومة الأميركية - رجال مثل بول وولفوفيتز، ودوجلاس فيث في "البنتاجون" وآخرين في مكتب نائب الرئيس. فهؤلاء الرجال كانوا هم المهندسون الحقيقيون للحرب التي أرادوا من خلالها تحطيم العراق كدولة، لإزالة أي تهديد محتمل يأتي لإسرائيل من ناحية الشرق. ومن دون حملات التحريض المستمرة التي شنوها من أجل الدفع باتجاه الحرب، ما كان يمكن لتلك الحرب أن تقع في الأساس. من هنا يمكن القول إن تدمير العراق كان تداعياً ـ وإن يكن غير مباشر ـ من تداعيات الصراع العربي- الإسرائيلي. وهذه الحرب لم تؤد إلى مصرع مئات الألوف من العراقيين، وتشريد ملايين من ديارهم، وتحويل ملايين غيرهم إلى لاجئين، وتدمير البنية التحتية للبلاد بل كانت لها أيضا نتيجتان إضافيتان: الأولى، فتح الطريق أمام إيران للتحول إلى قوة إقليمية.والثانية، هي إطلاق شياطين الصراع الطائفي من عقالها في العراق نفسه. تلك الشياطين التي لا تزال تجوب أنحاء البلاد، ولم يتم ترويضها حتى الآن.