دائماً ما نتغنَّى بأن تاريخ العرب يربو على آلاف السنين، وأن حضارتهم وعلمهم هما السبب الرئيسي في تقدم البشرية وفي تطور الغرب والشرق، اللذين استفادا منهما في مجالات حياتهما جميعها. كما أن العرب مارسوا السياسة عبر قرون من الزمن، إلا أنهم حتى الآن لم يصلوا إلى ما وصل إليه الآخرون في التقدم العلمي أو التكنولوجي، وفي الوقت نفسه لا يزالون في حكم الهواة، بل ربما أقل، في ملاعب السياسات المحلية والإقليمية والعالمية، ولم يبلغوا حتى الآن درجة الاحتراف بعد، وهناك فرق كبير وهوَّة شاسعة بين الهواية والاحتراف في ممارسة السياسة، بل إن هناك درجات لكل من الهواة والمحترفين في مستوى هذه الممارسة وطرقها. إن الهواية في مفهومها العام تعني تمضية وقت الفراغ بما يحب الإنسان عمله، وفي تعريف آخر نجد أنها النشاط الذي يقوم به الشخص بعيداً عن وظيفته أو مجال عمله ليمارسه من أجل المتعة والتسلية. في حين أن الاحتراف عملية منظمة وهادفة تمثل المهام والواجبات التي يجب أن يقوم بها الشخص وفق متطلبات وظيفته وطبيعة مسؤولياته، بكل حرفية ومهنية عالية تجعله متميزاً في موقعه الوظيفي، متسماً بالولاء والعطاء غير المحدود، ومستعداً بدنياً وذهنياً وعقلياً وعلمياً للقيام بمسؤولياته وفق ما هو مأمول منه وبكفاءة عالية. والهواية يمكن أن يمارسها الشخص وفق هواه وظروف وقته، بينما الاحتراف يحتاج إلى العمل المضني طوال الوقت وتحت مختلف الظروف ودون أدنى اعتبار لأهواء الشخص أو مزاجيته أو ميوله ليحافظ على مكانته ودوره في العمل. لكل من الهواية والاحتراف مزايا وعيوب، ومن أهم مزايا ممارسة الهواية توافر الموهبة والمهارة النسبية، غير المصقولة، دون تحمل مسؤولية أو التزام صارم بمتطلبات القيام بها، ولا تشترط ممارستها التأهيل العلمي والخبرة العملية الموثوق بها، مع إمكانية التوقف عن مزاولتها في أي وقت وفق رغبة الهاوي نفسه، كما يمكن للهواة تجنب الضغوط أو الهرب منها، وعند ممارستهم هواية يسعون إلى نسيان الواقع المعيشي، وعادة ما تتداخل الأمور الشخصية مع العمل، ويجري الخلط بين المتعة والهواية، وبالطبع لا يفكرون في الحصول على عائد مجزٍ بل ربما تكفي الإشادة بالهاوي أو الحصول على مكافأة رمزية نظير إنجازاته، لأنه يمارس الهواية للترويح عن النفس، لكن في حال تحولت الهواية إلى مصدر للرزق، فإن الهاوي يبذل قصارى جهده ليثبت تفرده وتميزه فيها لتأتي إليه الفرصة الكبيرة ليصبح محترفاً. أما مزايا الاحتراف فكثيرة، يأتي على رأسها التميز والحرفية العالية في ممارسة العمل، والحيوية والنشاط، والإلمام الكامل بكل خبايا المحترفين الآخرين في المجال نفسه، وتعرف الآلاعيب المختلفة للخصوم ومهارات التغلب عليها، ومحاسبة النفس والانضباط الشديد في كل شيء، والدراسة المسبقة لكل خطوة، والسعي دائماً إلى الحصول على أكبر عائد أو مكسب، والتخطيط للمستقبل وعدم ترك أي شيء للصدفة، وتجنب الخلط بين الأمور الشخصية والعمل، والاستعداد الدائم لمواجهة كل الظروف وتحمل المسؤولية المهنية، خشية فقدان المكانة والسمعة ومن ثم خسارة الوظيفة أو المهنة، وتراجع العائدين المادي والمعنوي اللذين من المفروض أن يزدادا عاماً بعد آخر. وعادة ما تمارس الهواية في أوقات الفراغ ولفترة زمنية محددة ترتبط بظروف الهاوي، وإرضاء نفسه هو أقصى أمانيه وتطلعاته ولا يكترث كثيراً لآراء الآخرين أو مواقفهم حيال طريقة ممارسته هوايته، وربما تدفعه الأمور الحياتية أحياناً إلى التوقف عن الهواية أو تأجيلها، ومن ثم لا يعتمد عليها مادياً في تسيير حياته بل يقتات من وظيفة مغايرة تماماً لهوايته. أما الاحتراف فيحتاج إلى التفرغ والعمل المستمر طوال الوقت، والعطاء بلا حدود، فهو مصدر الرزق، لذلك يتطلب الاستعداد الدائم والمهارة العالية والقيام بما هو مطلوب منه تحت مختلف الظروف، ولا يوجد سقف يحدّ طموح المحترف، وعليه أن يبذل قصارى جهده للحفاظ على سمعته في مجال نشاطه، ولا ينجر وراء الشؤون الشخصية أو ينجذب إلى المهاترات، فهو يعرف هدفه ويصر على الوصول إليه ويبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس، لذلك فإن خصومه ومنافسيه يعملون له ألف حساب عند التعامل معه. وإذا كنا لا ننكر الدور الذي تلعبه الشخصية، سلباً أو إيجاباً، في تنمية الهواية أو الاحتراف، فإننا أيضاً يجب ألا ننسى أن الهواية لا تحتاج إلى فريق عمل مدرب وعلى مستوى عالٍ من التخصص لصقلها أو تنمية مهاراتها، بينما هذه الأمور مطلوبة بشدة في الاحتراف، بل هي الضمان الوحيد للحفاظ على التفوق والمهنية العالية، ومن ثم يلزم حسن اختيار فريق المساعدين والمعاونين والمستشارين العاملين إلى جانب المحترف. فإذا حاولنا تطبيق ما سبق على السياسة العربية وممارستها سنجد أنها تتسم في معظم حالتها بالهواية وليس الاحتراف، والأمثلة كثيرة على ذلك، سنكتفي هنا بثلاث قضايا عربية مصيرية لنرى ماذا فعلت بها ممارسة الهواية في السياسة العربية. أولى هذه القضايا الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، وهنا يبرز على السطح صراع الإخوة الأعداء بزعامة "فتح" و"حماس"، ففي الوقت الذي تدرك فيه الأطراف العربية جميعها أن انقسام الفلسطينيين واختلافهم "رحمة" لأعدائهم، ومصلحة حيوية استراتيجية للكيان الصهيوني، فإنها لا تفعل شيئاً سوى تشجيع الحوار الذي ينبثق منه حوار لينتقل منه إلى حوار آخر، ويدار في وقت الفراغ لأنه لا يوجد سقف زمني يحدّه أو اتفاق على الحد الأدنى من المصالح المشتركة، وكل محاور يبحث عن مصالحه الذاتية دونما أدنى اعتبار للمصلحة الفلسطينية العليا، حتى بعض الدول العربية الداعمة للحوار والمساندة له أو الساعية إلى إفشاله، من الهواة أيضاً، فليس لديها هدف استراتيجي واضح له سقف زمني لتحقيقه، ولا تملك وسائل لتفعيل هذا الحوار أو الضغط على أطرافه، لذلك تظل المصطلحات وحدها هي عنوان الممارسة السياسية دون تطبيق ذلك على أرض الواقع، فعنوان "المصالحة الوطنية" يتطلب "المصارحة الوطنية" وإعلاء مصلحة الوطن فوق الجميع واتخاذ خطوات عملية لتحقيقها حتى لو تطلب الأمر استقالة الهواة جميعهم واستبدالهم بهواة آخرين، يكون هدفهم التحول إلى الاحتراف، مع حسن اختيار المدرب والمساعدين. وهذا ليس تبسيطاً للأمر ولكن القضية باتت لا تتحمل الهواة وضياع الوقت والجهد والمصالح، في مواجهة مجموعة من اللاعبين المحترفين أصحاب الأجندات الواضحة والأهداف الأكثر وضوحاً. والقضية العربية المصيرية الثانية المشروع الإيراني للمنطقة، فطهران في اندفاعها الثوري تغلغلت ووضعت يديها وأرجلها في معظم القضايا العربية، وتسعى إلى التمدد الاستراتيجي، وتعمل على إحياء "الإمبراطورية الفارسية"، وتصر على احتلال الأراضي العربية وترفض بصلف واستعلاء دعوات الحل السلمي لهذا الاحتلال، وتحاول أن تنتقل من مرحلة الهواية إلى مرحلة الاحتراف بامتلاك قدرات نووية عسكرية للاعتراف بها قوة إقليمية كبرى، وتضرب بعرض الحائط كل المواثيق الدولية، وترفض الانصياع لإرادة المجتمع الدولي مهما كان الثمن، ولم تجد في هواة السياسة العربية من يواجهها بأخطائها في حق العرب، ويحاسبها على توجهاتها العدائية التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها، ويكشف حقيقة نيّاتها النووية بكل شفافية وصراحة، ويقف في وجه من يحاول تكريس المشروع الإيراني، سواء كان عن قصد أو غير قصد، فلا معنى للاعتراف بحقيقة الجغرافيا ونسيان حقائق التاريخ، فبلاد فارس جارة وهو أمر لن يتغير، ولكن هذا لا يعني السكوت عن التهديد الملحّ الذي تمثله للأمن الإقليمي. وثالثة القضايا العربية الراهنة هي الصومال، فقد ضاع الشعب وتفكك المجتمع وفُقدت الدولة، ولا تزال السياسة العربية على حالها تحاول حصار التداعيات وانتظار النتائج، ولا تسعى إلى المواجهة الاحترافية للمشكلة وتتدخل لعلاج أسبابها، وكأن هذا البلد يقع في كوكب آخر، فالأمر يفرض وضع حل جماعي ناجع يضمن الحد الأدنى للمصالح لأطراف الصراع الصومالي جميعها، ومن يشذ عن الصف يلزم فضحه بالطرق والوسائل الممكنة. من كل ما سبق نجد أن احتراف السياسة يعني الممارسة الجادة والواقعية التي تتسم بالحرفية العالية، والتضحية والإخلاص والشفافية والعمل على خدمة مصالح الوطن والمواطن، والنأي بالنفس عن المصالح الذاتية أو تحقيق مآرب شخصية أو الانتصار لجماعة على حساب مصالح المجتمع كله، والتركيز دائماً على المصلحة العليا للوطن، حتى لو تطلَّب الأمر التنحِّي عن الكرسي. Classifications