للاستهلاك جانبان، أحدهما إيجابي والآخر سلبيّ، فالاستهلاك هو المحرّك الرئيسي لعجلة الإنتاج ولولا الاستهلاك ما كانت هناك حاجة إلى إنشاء مصانع، وبالتأكيد فإن الحديث هنا عن الاستهلاك المرشد والمنضبط، وهو الجانب الإيجابي للاستهلاك، لكن إذا ما انتقل الاستهلاك من الترشيد إلى الإسراف، وإذا ما انتقل الفرد من الاقتصاد إلى التبذير فهذه هي المشكلة، وهذا هو الجانب السلبيّ للاستهلاك. ومن يبحث عن جذور "الأزمة المالية العالمية" يجد أنها كانت نتيجة مباشرة للاستهلاك غير المنضبط بين الأفراد من ذوي الدخول المرتفعة في الدول المتقدّمة، وانتقال هذا الطابع الاستهلاكي إلى المؤسسات، حتّى أن هذه المؤسسات قد صاغت برامجها وميزانياتها بما يخدم الطابع الاستهلاكي السائد بين الأفراد، كما حدث في حالة المصارف في بعض دول العالم، التي توسّعت في منح القروض الاستهلاكية للأفراد، لتمويل جميع احتياجاتهم مهما كانت صغيرة أو كبيرة، من دون مراعاة الجدارة الائتمانية لهم، وعلى الجانب الآخر توسّعت المصارف في الاقتراض من دون ضوابط، لتمويل شراهة الاقتراض لدى الأفراد، إلى أن أثقِل كاهل الأفراد بالديون، وعندما ضعُفت قدرتهم على سداد القروض، انكشفت المصارف، وسقطت في غياهب الديون المعدومة، ومن هنا اشتعلت "الأزمة المالية العالمية". ومن يتابع النظام المصرفيّ الإماراتي يلحظ أن المصارف العاملة في الدولة قد توسّعت بشكل كبير في الإقراض الشخصي خلال السنوات القليلة الماضية، ووفّرت قروضاً لتغطية مختلف الاحتياجات الاستهلاكية للأفراد، بداية من تمويل شراء الاحتياجات الكبيرة مثل المنازل والسيارات والزواج، إلى تمويل شراء الاحتياجات الصغيرة مثل الحواسب الآلية والهاتف المتنقل، حتى تمويل الرحلات الترفيهية. وبالطبع، فإن المرونة التي أبدتها المصارف في دولة الإمارات وسهولة منح القروض الشخصية أسالتا لُعاب المستهلكين، فانخرط معظمهم في الاقتراض، إلى أن أصبح نحو 70% من سكان الدولة مدينين إلى المصارف، وهذا إن كان مؤشراً إلى تطوّر أسلوب معيشة السكان في الدولة، إلا أنه في الجانب الآخر يعدّ مؤشراً إلى عدم رشادة السلوك الاستهلاكي للسكان. وبالرغم من قيام المصارف العاملة في الدولة بتغيير سياساتها الائتمانية في ظل "الأزمة المالية"، واتّباعها سياسة ائتمانية أكثر انضباطاً من ذي قبل، فإن هذا السلوك الاستهلاكي للأفراد لم يتغير، وما زال يتسم بالطابع الاستهلاكي المعهود. لكن ربما تكون "الأزمة المالية العالمية" وما جاءت به من آثار تلمس من قريب أو من بعيد جميع الأفراد حول العالم دون استثناء، فرصة للجميع لمراجعة أسلوب حياته وتصحيح بنود نفقاته. ولا تشمل هذه الأزمة الأفراد فقط، بل إنها تمسّ المؤسسات والشركات بقطاعيهما الخاص والحكومي، بل إن الأزمة تلحق بالمؤسسات قبل الأفراد، ويعدّ ترشيد الاستهلاك وسيلة فعّالة يمكن للمؤسسات أن تستخدمها في مواجهة تداعيات "الأزمة المالية العالمية". وفي مجمل القول، فإن إسراف الفرد يدفعه إلى الاستدانة، وإسراف المؤسسات يدفعها إلى الإفلاس، وإسراف الاثنين يلحق الضرر بالدولة والمجتمع كليهما، والحلّ في يد الاثنين، ومسؤولية الحدّ من آثار "الأزمة المالية العالمية" تقع على عاتق كل فرد وكل مؤسسة في مختلف الدول، فالكلّ ملزم بالاقتصاد وبمراجعة بنود إنفاقه، وإلغاء كل ما ليس ضرورياً، وتأجيل كل ما يمكن تأجيله لحين تحسّن الظروف الاقتصادية عالمياً؛ فلا يعني عدم تضرّر مجتمعنا من الأزمة بشكل كبير، أن سلوك الغالبية الاستهلاكي رشيد، بل إن ذلك عائد بالأساس إلى نجاح القيادة ورشادتها في تقليل التداعيات المحلية لـ"الأزمة المالية العالمية" وتفادي تأثيراتها قدر الإمكان، فالدول التي نجحت في تكوين بعض المدّخرات قبل الأزمة هي الآن أقل معاناة، وأكثر قدرة على الخروج من الأزمة مقارنة بغيرها من الدول.