خلال ما يزيد على ثلاثين عاماً، ظلت السوق الحرة قوة دافعة لنمو الاقتصاد الصيني القائم على وفرة الأيدي العاملة، إلى جانب مساعدتها لما يزيد على 200 مليون من مواطني الريف الصيني في الخروج من هوة الفقر وتحسين أوضاعهم المعيشية. غير أن الأزمة المالية الاقتصادية الحالية التي يمر بها الاقتصاد الأميركي، تركت تأثيرات بالغة الضرر على الاقتصاد الصيني. فمقارنة بالعام الماضي، انخفضت صادرات القطاع التجاري الصيني اعتباراً من شهر يناير المنصرم. وخلال الأشهر القليلة الماضية، تشير التقديرات إلى خسارة حوالي 20 مليوناً من عمال الريف الذين هاجروا إلى المدن لوظائفهم. ويتخوف المراقبون والخبراء من أن يلجأ الحزب إلى تعزيز شرعيته بوسائل أخرى، في حال إخفاقه في المضي قدماً في تحقيق وعود التقدم الاقتصادي التي قطعها على مواطنيه. وهذا ما يدعو أميركا لتوخي الحذر وتفادي أي سياسات من شأنها استعادة ماضي النزاعات بين القوى العظمى في تعاملها وعلاقاتها مع الصين. ومن المخاوف التي يبديها الخبراء والمراقبون أن تلجأ الصين إلى تبني استراتيجيات جيوسياسية أشد عدوانية في بحر الصين الجنوبي، الذي يعد من أكبر وأنشط طرق الملاحة البحرية عالمياً. ومما يعزز هذه المخاوف إعلان الصين العزم على استعادة سيطرتها على حقول الغاز الطبيعي في جزيرتي مالابايا وكاماجو الفلبينيتين، بالإضافة إلى عدة جزر أخرى تعرف بغنى مواردها من الغاز الطبيعي وغيرها من الموارد، التي ربما تعين الصين على إرواء ظمأ اقتصادها للطاقة. ولم يعد الإعلان المذكور مجرد تعبير عن رغبة فحسب، بل سبقته خطوات عملية على صعيد التحركات الإقليمية من قبل بكين. ففي عام 1988، دمر سلاح البحرية الصيني عدداً من سفن البحرية الفيتنامية بسبب مناوشات ومعارك صغيرة دارت في إطار النزاع الإقليمي على أرخبيل "سبراتلي". وفي عام 1995، تمكنت القوات الصينية من وضع يدها على منشآت Mischief Reef التي كانت تزعم الفلبين وقوعها ضمن حدودها الوطنية. وبينما يصف المنتقدون تلك المنشآت بأنها ذات طبيعة عسكرية عدوانية، ترد بكين بالقول إنها منشآت ضرورية لحماية صياديها لا أكثر. وبالنظر إلى هذه التحركات، فليس من عجب أن تبدي عواصم دول شرق آسيا مخاوفها من تزايد قوة سلاح البحرية الصينية وعدوانها. هذا ما أكده البروفيسور "آرثر والدرون" أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بنسلفانيا بقوله: "هناك قلة فحسب من الآسيويين لا تتشكك في أن تسعى بكين إلى تكرار محاولاتها ومساعيها السابقة لتوسيع نفوذها الإقليمي، طالما أنها حققت أكثر من نجاح واحد في هذا الطموح". ولا يقف الأمر عند المستوى الإقليمي طالما أن لتحديث الآلة الحربية الصينية صلة كبيرة بالأمن القومي الأميركي. وكما هو معلوم تاريخياً، فكثيراً ما تسببت القوى الصاعدة في زعزعة النظام الدولي وتهديد استقراره، في العديد من الحالات والعصور. ورغم توافر بعض الأدلة على احتمال تحول الصين إلى دولة عدوانية توسعية، لا يزال هناك من يرى فيها قوة دولية مدجنة تسعى إلى تحسين علاقاتها مع بقية أفراد الأسرة الدولية. وفي اعتقاد بعض المراقبين أن احتمالات تحول العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين إلى علاقة عدوانية، تمثل حافزاً كافياً لضرورة، حث بكين وتشجيعها على مزيد من الاندماج في النظام الاقتصادي التجاري العالمي. وفي هذا الاندماج ما يردع بكين عن التمادي في اللجوء إلى القوة العسكرية وحدها، باعتبارها أداة لخدمة مصالحها الوطنية. فكلما ازداد عبور البضائع والسلع للحدود بين الدول، كلما قلت الحاجة لعبور الجنود للحدود نفسها. فالحكمة السائدة هنا، أنه كلما ازداد تعاون الدول وتبادلها التجاري، كلما قلت حاجتها لشن الحروب والمواجهات العسكرية. وبالنظر إلى تردي الوضع الاقتصادي العالمي حالياً، فإن الأمل أن تنسجم المصالح الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة والصين بدلاً من أن تتصادم مع بعضها البعض. وما يقوي هذا الأمل، هو تزايد الاعتماد الاقتصادي بين الدولتين. بيد أن الاعتماد الاقتصادي بين الدول ليس سبباً كافياً بحد ذاته لتجنب اندلاع الحروب فيما بينها. وكما حدث من قبل، لم تمنع قوة العلاقات الاقتصادية التجارية بين بريطانيا وألمانيا، اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. وربما تتخلى الدول عن مكاسبها الاقتصادية أحياناً، فيما لو تضاربت تلك المكاسب مع مصالحها الاستراتيجية العليا. وفي حالة العلاقات الأميركية الصينية، ربما كانت تايوان إحدى شرارات النزاع المحتملة بين واشنطن والصين. ويعتقد كثير من المحللين أن واشنطن ملتزمة بحماية أمن وسلامة تايوان من أي تدخل قهري صيني، اعتماداً على نصوص قانون "العلاقات مع تايوان" الذي شرعه الكونجرس الأميركي عام 1979. غير أنه على الإدارة الجديدة في البيت الأبيض العمل تشجيع الصين على المزيد من الاندماج في المجتمع الدولي ونظام السوق الحرة، بدلاً من تصعيد التوترات معها. وفي هذا الخيار ما يساعد على تسريع التعافي من تأثيرات الأزمة الاقتصادية المالية الحالية في كل من أميركا والصين. -------- مالو إينوسنت محلل السياسات الخارجية بمعهد "كاتو" --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"