التصريحات النارية، والإشارات الغامضة والمتناقضة التي أخذ مسؤولون إيرانيون إطلاقها في الآونة الأخيرة تجاه دول الخليج العربية، خاصة دولة الإمارات ومملكة البحرين، محيرة جيداً، وتبدو في بعض مظاهرها مقصودة بشكل مباشر، ولكن حين يتمعن المرء فيها جيداً لمعرفة مدلولاتها الحقيقية والمقاصد المتوخاة من وراء إطلاقها، لا يجد لذلك تفسيرات واضحة أو محددة. ويعود السبب في ذلك إلى أن مسؤولين بعينهم يطلقونها بقوة، ثم يأتي في اليوم التالي مسؤولون آخرون لكي ينفوا ما قاله سابقوهم جملة وتفصيلاً، ما يترك المراقبين والمحللين ورجال السياسة أسرى لإيماءات وإشارات وتهديدات وتطمينات ووسائل نفي لها أول وليس لها آخر. هذه الأعراض المتزامنة بتناقض، تحتم على حكومات الخليج وشعوبها أن تسائل نفسها حول ما الذي تريده إيران منهم، وحول ما يجري داخل إيران في هذه المرحلة. وفي سياق ذلك، يتوجب التيقن بأن الثورة التي يهدد المسؤولون الإيرانيون بتصديرها طيلة الثلاثين عاماً التي مضت قد بردت منذ زمن ليس بالقصير. صحيح أن من ورثوها لا زالوا يسيطرون على وسائل العنف فيها. وصحيح أن إيران لا زالت مستمرة في الرغبة في تصديرها إلى الجيران الخليجيين، وصحيح أنها لا زالت تدعم العديد من حركات التطرف والعنف في البلاد العربية، بما في ذلك دول الخليج، وإن كان ذلك بخفاء و"تقية" شديدين. وصحيح أن إيران تحاول أن تعوض عدم قدرتها على تنفيذ مشاريع الهيمنة على دول الخليج عن طريق التهديد المباشر وغير المباشر والشروع في تسريع رغبتها في امتلاك السلاح النووي. وأخيراً صحيح أن إيران تحاول أن تجهض العديد من محاولات دول المنطقة وحلفائها في ترسيخ حالة الأمن والاستقرار. ولكن بغض النظر عن صدقية هذه المنغصات، إلا أن الحمى الراديكالية التي كانت جذوتها تشكل تهديداً وخطراً بالتوسع في المنطقة، وفزاعة تخيف دول الخليج وجيران إيران الآخرين في الشمال والشرق ودول الغرب، تبدو الآن وقد تبخرت من ناحية عملية. وبالتأكيد أن السياسة الخارجية الإيرانية ليست مسيرة من قبل الأيديولوجيا الدينية وحدها، فهي تتصف بأرومة قوية من البراجماتية أيضاً، فديماغوجية الدعاية التي تركز على نصرة الإسلام بشكل مجرد من لعبة المصالح الخاصة، والعداء تجاه الغرب وإسرائيل عادة ما يتم تفصيلها وخياطتها للاستهلاك الداخلي، وهي عديمة المصداقية في الواقع العملي الخارجي لأنها ليست سوى دعاية سياسية تهدف إلى إشغال المواطن الإيراني البسيط عن همومه المعيشية اليومية التي تسير نحو الانحدار. وفي الآونة الأخيرة صدرت خطابات متشددة جداً تجاه دولة الإمارات حول قضية جزرها المحتلة، وظهرت ادعاءات لا أساس لها من الصحة حول معاملة سيئة مخصصة للإيرانيين وحدهم عند قدومهم إلى منافذ الدولة، وتجاه مملكة البحرين بأنها مقاطعة إيرانية، وتجاه كافة دول الخليج بالتهديد بإغلاق مضيق هرمز منفذها الوحيد إلى العالم الخارجي، وتجاه كافة الأطراف الخليجية والعربية والعالمية التي تسعى جاهدة لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، فما الذي تريده إيران بالتحديد من وراء كل ذلك؟ وهل ما ترسله من إشارات وإيماءات وخطابات ذات معنى ولها مدلولات محددة وواضحة أم أنها عبث سياسي مصمم للاستهلاك الداخلي؟ الواقع هو أنه بالنسبة للقضايا الحساسة التي تثير إيران زوبعة حولها، أن المواقف الإيرانية المتشددة المستجدة حول قضية الجزر وقدوم المواطنين الإيرانيين إلى الدولة والمعاملة السلبية المزعومة التي يتلقونها ويثيرها الإيرانيون دون تقديم أدلة مادية عليها، ومسألة وضع مملكة البحرين كدولة ذات سيادة، أمور غير مبررة وغير مفهومة ولا تخدم المصالح الإيرانية مع دول الخليج العربية، بل على العكس من ذلك تعمل ضد كل ما تحاول أن تبذله دول الخليج العربية من جهود لتأسيس علاقات حسن جوار متميزة مع الجانب الإيراني، وربما أن ذلك عمل على تفويت فرص مستقبلية واعدة على إيران لتحقيق مصالح حقيقية، وعلاقات متميزة مع دول الخليج حكومات وشعوباً، فمتى يفقه من يحاولون الإساءة إلى دول الخليج العربية ذلك، ويحاولون فهم هذه الحقائق واستيعابها بشكل سليم يفضي إلي بناء جسور من الثقة والاحترام المتبادل وتحقيق المصالح الحقيقية بين دول الخليج وبعضها بعضا بعيداً عن جميع أشكال خطابات الاستكبار والتعالي والمزايدة التي تطلق جزافاً دون أدنى تحمل للمسؤولية.