في الرياض، حركة سياسية دبلوماسية دولية وإسلامية وعربية. خادم الحرمين الشريفين يستقبل وزير الخارجية السوري وليد المعلم الذي أعلن: "ان الرياض ودمشق متفقتان على الاستقرار في لبنان وضرورة إجراء الانتخابات النيابية في أجواء هادئة". وفي الرياض اجتماعات متتالية لوزراء خارجية ومالية دول مجلس التعاون الخليجي وإطلاق صندوق خليجي لإعادة إعمار غزة. ودعوة من مجلس الوزراء السعودي إلى الأشقاء الفلسطينيين لتوحيد صفوفهم. وفي دمشق، حركة سياسية ودبلوماسية دولية وعربية لافتة أيضاً، وتوقيع مبدئي لاتفاق الشراكة مع أوروبا وحديث عن حوارات ونقاشات ومبادرات وانفتاحات أميركية وأوروبية على سوريا لخلق مسافة بينها وبين إيران! ويترافق ذلك مع انتقادات مصدرها وكالة الطاقة الدولية وعنوانها وأساسها: سعي سوري لبناء مركز نووي في منطقة الكبر سبق أن قصفته إسرائيل ودمّرته. وبالتالي دعوة إلى سوريا للتعاون مع الوكالة ووقف مثل هذه الأنشطة "المريبة". وفي دمشق أيضاً، حركة فلسطينية. حوارات – لقاءات – جولات ذهاب وإياب إلى القاهرة من قبل وفود من "حماس" وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى. في إيران استنفار، تعيين دينس روس مستشاراً لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مختصاً بشؤون إيران، أمر أقلق العاصمة طهران. فهو غير ودود بل قاس تجاه الملف النووي الإيراني! يقابل ذلك افتتاح محطة بوشهر على أيدي "الروس". وإعلان الاستعداد الإيراني لزيادة عدد أجهزة الطرد النووي من 6 آلاف إلى خمسين ألفاً! ورفض إيراني للتوجهات الأميركية التي تؤكد أن لا تغيير في الإستراتيجيات وسعي إيراني إلى بسط ومد النفوذ من المحيط إلى البحر. أي من أفغانستان إلى العراق إلى الخليج إلى سوريا وجنوب لبنان وفلسطين. وفي الخليج، قلق عام من إيران وتنامي دورها. بعض القلق رسمي، ثمة عدد من الدول الخليجية لا يعلن مواقف واضحة نقدية لإيران. ومع ذلك لم يتحمل أحد من دول الخليج تصريحات أحد المسؤولين الإيرانيين التي استهدفت البحرين وسيادتها واستقلالها معتبراً فيها أن هذا البلد هو تاريخياً محافظة من محافظات إيران! وقد أثار التصريح دهشة وذهول واستغراب ورفض عدد كبير من المسؤولين؛ لأنه يذكر بكلام صدام حسين عن الكويت الذي انتهى باحتلالها. مجلس التعاون الخليجي رفض هذا الموقف، الردود كانت قاسية. إيران حاولت وتحاول حتى الآن لملمة ذيول هذا الكلام، لكنها لم تتمكن من محوه من الذاكرة رغم زيارة وفد إيراني رفيع المستوى إلى البحرين وتصريحات كثيرة أطلقت تؤكد عدم جدية الكلام الذي قيل! ولكن، هي ليست المرة الأولى التي تثار هذه المسألة، سبق وأطلقت تصريحات غير مطمئنة للبحرين. كذلك ثمة محاولة لاعتبار إيران نفسها مسؤولة عن الشيعة في كل العالم، خصوصاً في الخليج العربي القريب منها، وقد ظهرت مؤشرات ومواقف مقلقة في هذا الاتجاه لعدد من الدول العربية. وفي الوقت ذاته، في العلن وفي الكواليس، ثمة حوار جدي مع إيران أوروبي وأميركي، وحديث عن الوصول إلى اتفاقات أو احتمال التوصل إلى ذلك، وإيران فرضت نفسها قوة ولاعباً أساسياً في شؤون المنطقة ولا يمكن تجاوزها بوقائع التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد! يرافق ذلك دور قطري في كل الاتجاهات والعواصم ومراكز القرار حركة على مستوى السودان – دارفور – احتمال الحكم ضد الرئيس البشير – توقيع اتفاق مبدئي بين الفصائل السودانية المختلفة (السلطة وما يسمى بالتمرد) وحركة باتجاه دمشق وفرنسا ودخول على خط الوساطة للتهدئة بين إسرائيل والفلسطينيين. وعلاقة مميزة مع طهران، وكل ذلك تمهيد للقمة العربية التي ستعقد في الدوحة أواخر مارس المقبل. ودور سعودي يؤكد ثبات الموقع السعودي القيادي والريادي في المنطقة، وحرص على دور مصري لا يزال مطلوباً وضرورياً رغم الاستهدافات الكبرى لدورها وموقعها في المنطقة الصادرة من أكثر من مكان. وفي مقابل ذلك، حركة دولية مفتوحة على كل الاحتمالات. كل قوة كبرى تريد حماية مصالحها ونفوذها واقتصادها في ظل أزمة مالية خانقة باتت تهدد مجتمعاتها. تركيز وخوف على باكستان من الوقوع في يد الإسلاميين المتطرفين وهي دولة نووية. وهذا يؤدي إلى التركيز أكثر على أفغانستان والمأزق الأميركي فيها وأدوار الصين وروسيا والهند وإيران هناك، وبالتالي ضرورة أخذ كل ذلك في الحسبان. ودور تركي متنامٍ ولو غاب لأيام عن صورة حركة الاتصالات المكثفة التي أشرنا إليها. لكن تركيا في قلب هذه الاتصالات ظاهراً وعلناً والامتـدادات "العثمانية" تعود إلى الظهور في أكثر من دولة وعلاماتها بادية في أكثر من تصرف وسلوك! العيون مفتوحة على أفريقيا وثرواتها، وستكون قارة المستقبل القريب على الأقل لناحية محاولات مد النفوذ إليها والاستفادة من إمكاناتها. وهذا بحد ذاته واحد من المواضيع المطروحة على طاولات المفاوضات بين القوى الكبرى، كي لا نقول ورقة من أوراق التفاوض أو الاستهداف... وإسرائيل تبقى الثابت الإستراتيجي في حسابات كل الدول الكبرى حتى الآن، وهذا ما بدا واضحاً خلال الحرب على غزة وإذا كان ثمة من يتحدث عن إمكانية وقوع خلاف بين الإدارة الأميركية الجديدة والحكومة الإسرائيلية الجديدة بقيادة نتانياهو، وهذا احتمال قائم، فإن ذلك لن يصل إلى حد التفريط بالثوابت والمبادئ التي تكرس كل الحماية لإسرائيل. وأبرز دليل اليوم هو الشروع الإسرائيلي في طرد عدد من الفلسطينيين من منازلهم ومصادرة المزيد من الأراضي لبناء المزيد من المستوطنات دون أي رادع فعلي ولو صدرت بيانات وانتقادات من هنا أو هناك ويترافق ذلك مع التأكيد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! كل هذه المؤشرات مترابطة، وتأتي في سياق حركة سياسية دولية وعربية ينبغي أخذها في الحسبان عند أي قرار سياسي يجري الإعداد له. من هنا تنطلق أهمية ما يجري في فلسطين، ويتجدد التأكيد على ضرورة التفاهم الفلسطيني. وإنهاء كل نقاط الخلاف وعلى الأقل مسألة المعتقلين بين "فتح" و"حماس"، فإذا كان مفهوماً تعثر المفاوضات بين إسرائيل و"حماس" أو إسرائيل والسلطة الفلسطينية على إطلاق سراح معتقلين في السجون الإسرائيلية، فإنه من غير المفهوم على الإطلاق ألا تنجح المفاوضات بين الفلسطينيين أنفسهم لإطلاق سراح "الأسرى الفلسطينيين في السجون الفلسطينية"، إن صح التعبير، ولم يعد مفهوماً استمرار الحملات الإعلامية بين الفصائل الفلسطينية، ولذلك يجب أن يبنى على الخطوات المتخذة في الأيام الماضية لتعزيز مناخ الحوار والتهدئة تمهيداً لاتفاق شامل يبدأ بإعادة إعمار غزة على أساس إعادة الإعمار السياسي قبل فوات الأوان. فالمرحلة لا تحتمل أي خطأ في الحساب، وكل شيء مطروح على طاولة الكبار، لتوزيع أدوار الصغار. وفي الطريق قد تضيع القضية. كذلك في لبنان، نحن محكومون بالتسوية والاتفاق، على أسس واضحة لا لبس فيها. فلا يجوز بقاء الوضع سائباً. أرواح الناس مهددة، وأمن الناس مهدد. والصواريخ من الجنوب تنتقل من مكان إلى آخر وعملية إلهاء وإرباك وانهاك واضحة للقوى الأمنية في تعقب المخلين بالأمن، والقنابل المتنقلة المتفجرة، أو المعدة للتفجير أو غير المعدة للتفجير، وكلها في سياق الرسائل السياسية وعمليات قصف وقتل وسرقة وإظهار الوضع وكأنه على شفير انهيار أو تدهور أمني كبير، ثم يبدو أن ثمة ضوابط تحول دون ذلك، لكن لا أحد يضمن النتائج في النهاية، ولا أحد يدعي القدرة على ضبط الوضع إلى ما لا نهاية، فكيف إذا كان ما يجري يأتي في سياق مبرمج ويبقى انتظار اللحظة المواتية لـ"تفليت" الأمور؟ اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا بد لوحدة اللبنانيين، ومصالحهم أن تتقدم على كل شيء. فلا بد من الاحتكام إلى الدولة والقانون والهدوء في التنافس في الانتخابات وغيرها قبل فوات الأوان وقبل خسارة البلد.