شرعت الإدارة الأميركية الحالية برئاسة باراك أوباما والقادة الروس بالكريملن في تبادل الرسائل الإيجابية، في تحرك ربما يؤشر على عودة الدفء إلى أوصال العلاقات الثنائية بين واشنطن وموسكو بعد مرحلة من الفتور اعترت الصلات بين البلدين في عهد الإدارة السابقة. وصلت إلى درجة، أبدى فيها البعض تخوفهم من الرجوع إلى حقبة الحرب الباردة بكل ذكرياتها المخيفة وتجربتها المريرة. وخلفية هذا التفاؤل بشأن تطور العلاقات الروسية- الأميركية وعودة المياه إلى مجاريها هو إعلان الرئيس باراك أوباما استعداده التفاوض مع روسيا حول اتفاق لنزع السلاح النووي يتم بموجبه تحديد سقف للترسانة النووية للبلدين في حدود لا تتجاوز ألف رأس لكل واحد منهما. وبالمقارنة مع إدارة الرئيس بوش، تشكل الخطوة الحالية لفريق أوباما تغييراً جوهرياً قياساً على السياسة السابقة التي ساهمت في تشنج العلاقات بين موسكو وواشنطن، وتشدد الخطاب المستخدم من الطرفين الذي أعاد أجواء الحرب الباردة إلى أذهان المراقبين. غير أن خطوة أوباما ليست فريدة من نوعها، وهي أيضاً ليست قطيعة مع الماضي، بل هي فقط افتراق عن سياسات بوش الرعناء ما دامت عملية مراقبة الأسلحة والحد منها ترجع إلى ستينيات القرن الماضي. فقد حرصت القوتان العالميتان آنذك، عندما كانت الحرب الباردة في أوجها، وكان الستار الحديدي مُسدل على أوروبا الشرقية، على تفادي الدخول في سباق للتسلح الذي، وإنْ كانت تعرف نقطة انطلاقه إلا أنه لا يمكن التنبؤ بمآله، أو رؤية خط الوصول. فأي سباق محموم نحو امتلاك الأسلحة والإنفاق المبالغ فيه على تطوير ترسانات مدمرة، لن يقف عند تهديد موارد البلدين مهما بلغا من غنى، بل يمتد إلى ما هو أخطر متمثلاً في زعزعة الاستقرار العالمي واحتمالات التسرب النووي. لذا اتخذت القوتان العظميان قراراً حكيماً بإخضاع ترسانتيهما من الأسلحة غير التقليدية للمراقبة وإحاطتها بقواعد تنظيمية تحول دون انتشارها، ولتفادي ما قد يعتبره أحد البلدين أفضلية، أو وضعاً متميزاً يغريه باتخاذ خطوات خرقاء قد تجر عليه وعلى العالم عواقب وخيمة. والأمر لا يتعلق هنا بتقليص عدد الرؤس النووية لدى أميركا وروسيا بقدر ما يتعلق بوضع آلية مشتركة لمراقبتها وضمان أمنها وتحديد سقف محدد يتفق الطرفان على عدم تجاوزه، وبالطبع يتم أيضاً الاتفاق على عدم تصدير الأسلحة النووية إلى أطراف عالمية أخرى حتى لا تسقط في أيدي جماعات غير مسؤولية، تستخدمها لابتزاز الدول وتهديد الاستقرار العالمي. هذا الإدراك الذي ظهر مبكراً لدى قيادة البلدين في موسكو وواشنطن قاد في مرحلة لاحقة إلى الدخول في ما يعرف بالمباحثات الاستراتيجية للحد من التسلح حتى قبل نهاية الحرب الباردة بالنظر إلى ثقل المسؤولية التي أحس بها البلدان ورغبتهما المشتركة في تجنيب العالم ويلات حرب مدمرة. لكن رغم ذلك، ظل عدد الأسلحة النووية المنتشر في العالم كبيراً، لا سيما ذلك الذي في حوزة القوتين العظميين أميركا والاتحاد السوفييتي السابق، حيث يقدر عدد الرؤوس النووية لدى البلدين قبل نهاية الحرب الباردة بحوالي 13 ألف في حالة استعداد دائم والعدد نفسه من الرؤوس في مخازن الأسلحة، وهو ما يضع العدد الإجمالي للسلاح النووي في العالم إلى حوالي 50 ألف قطعة يمتلكها البلدان كفيلة بتدمير العالم أكثر من مرة. ورغم الصعوبات الكبيرة التي واجهها الاتفاق الأميركي- الروسي في ذروة الحرب الباردة وتعقد العلاقات الثنائية في أكثر من بقعة على الأرض بعد تولي الرئيس الأميركي رونالد ريجان، نجح الاتفاق حول تنظيم التسلح النووي والحد منه في اجتياز العقبات، وظلت التفاهمات السابقة بين البلدين والتي ترجع إلى سنوات الستينات قائمة ومعمول بها. لكن ما أن حل الرئيس بوش في البيت الأبيض حتى تغيرت السياسات الأميركية التي بدأت تشعر بتعاظم قوتها بعد سقوط المعسكر الشرقي وانهيار الشيوعية، فقررت إدارة بوش المضي قدماً في نشر درع صاروخية بأوروبا الشرقية، وعبرت عن تحفظها إزاء الاتفاقات السابقة المتعلقة بالتسلح والحد من الترسانة النووية لتكون من بين الدول القلائل في العالم التي تنصلت من اتفاق 1972، إلى جانب كوريا الشمالية التي رفضت التوقيع على معاهدة عدم الانتشار النووي. وقد أثار إعلان إدارة بوش عن نيتها نشر درع مضادة للصواريخ ردود فعل حادة من القيادة الروسية، التي عارضت بشدة الخطوة الأميركية القريبة من أراضيها وردت بالتهديد بنشر صواريخها الخاصة في مدينة كلينينجراد وتوجيهها قبالة أوروبا الغربية في حال لم تتراجع واشنطن عن خطوتها، ولعله من أغرب المفارقات أن نرى سباق التسلح بين روسيا وأميركا ينطلق بعد عشرين عاماً على نهاية الحرب الباردة! لذا يأتي إعلان أوباما الأخير عن استعداد بلاده للتفاوض مع روسيا بهدف الحد من التسلح النووي كخطوة في الطريق الصحيح ليس لإرضاء موسكو فحسب، بل لما ينطوي عليه الإعلان من مصلحة كبرى للولايات المتحدة قبل غيرها، لا سيما أنها تدرك جيداً أنها في غنى عن ترسانة نووية ضخمة تشجع الآخرين على الاستزادة منها، إذ حتى بدون السلاح النووي تبقى أميركا متفوقة في مجال السلاح التقليدي ومتقدمة على جميع بلدان العالم. وبالطبع، لم يخلُ الإعلان الأميركي من لفتة موجهة إلى روسيا مفادها أنها لا تنوي الانقلاب على التفاهمات السابقة التي تم التوصل إليها مع الاتحاد السوفييتي السابق والمتعلقة بتقنين السلاح النووي حتى لا تعتقد موسكو أن واشنطن تريد زيادة أسلحتها النووية على حساب موسكو. ولا ننسى أيضاً أن ما حرك أوباما في إعلانه هو هاجس الانتشار النووي الذي يثقل كاهل إدارته في التعاطي مع الملف النووي الإيراني، فضلاً عن قرب انعقاد مؤتمر لمراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي في العام المقبل. فقد تعرضت المعاهدة لانتقادات شديدة من قبل الدول غير النووية، التي لاحظت تهرب الدول النووية من التزاماتها بشأن الحد من ترسانتها، لذا تريد الولايات المتحدة تغيير نبرتها وإظهار تعاونها من أجل حشد التأييد الدولي للضغط على إيران، وربما إقناعها في ظل الترتيبات النووية الجديد بأنها لن تستفيد من حيازة السلاح النووي بقدر ما ستخسر.