انتشرت حوادث القتل المتعددة في الآونة الأخيرة. شاب عاطل في مقتبل العمر يتسلق سور فيلا جديدة في المدن خلف الأسوار بهدف السرقة، فيجد أمامه شخصاً بالمنزل فيقتله. ولا يسرق خوفاً من الفضيحة أو القبض عليه متلبساً بالسرقة فيرتكب جرماً أعظم دون أن يدري أو يقصد. وقد يكون تحت سن المساءلة القانونية وعقوبة الإعدام. لا يعي القاتل ما يفعل. يقتل بطريقة لا إرادية. يريد الخلاص من سبب شقائه وضياعه، الغني، ورجل الأعمال الذي يتاجر في الأرزاق، والغريب الذي لا تربطه به أي علاقة. هو اللامنتمي الذي يريد كسر الحصار النفسي عن غربته، وتدمير الحواجز التي تمنعه عن العالم وتحقيق الذات. يوحي القتل بأنه قضاء على الآخر، وهو في الحقيقة تدمير للنفس والقضاء على الذات. والآخر مجرد وسيلة، فرصة أو مناسبة، أي آخر وليس آخر بعينه. لم تعد الحياة لها قيمة، لا حياته ولا حياة الآخر. لم تعد بذات دلالة. أصبحت غير جديرة بالبقاء. تتساوى مع الموت. فالحياة موت، في نظرته السوداوية القاصرة. وقد يكون القاتل شاباً صغيراً والقتيل شاباً أصغر أو في السن نفسها أو يكبره بقليل، فتى أو فتاة. ليس بنية العنف. وقد يثيره الغنى الواضح لسكان المدن الجديدة وراء الأسوار والأنوار، "بيفرلي هيلز"، الريف الأوروبي، و"الريفييرا" و"الكوت دازور" وكأن الوطن أصبح امتدادات للأوطان الأخرى. والأسماء تجلب الأشياء، والأشياء موطن غربة. وفي الوقت نفسه، انسداد الأفق الاجتماعي والسياسي. فلم يستطع الصعود إلى طبقة أو يتسلق إلى الحزب الحاكم. وانسدت أبواب الهجرة الشرعية وغير الشرعية أمامه. وقف "محلَّك سرْ". والوقوف يسبب الانفجار؛ لأن الحركة تستهلك الطاقة. لم تمتص طاقاته أوجه النشاط القائمة. ولم تربطه علاقة بقرابة أو جيرة أو صداقة. ويرى القتل حوله في كل مكان، في فلسطين والعراق وأفغانستان، والعنف والمشاجرات والأصوات العالية في الطرقات والأماكن العامة والتشابك بالأيدي والصراخ والتهديد بالسلاح الأبيض. ويصور ذلك كله في الأفلام والتمثيليات التليفزيونية المحلية والأجنبية، بل وفي الإعلانات التجارية عن كيفية التخلص من الملل عن طريق العنف ضد الأطفال والنساء والمسنين. ويرى ذلك في طريقة قيادة السيارات وعدم احترام قوانين المرور، وفي عذاب الإنسان في حياته اليومية، والانتظار بالساعات، وضياع الحقوق وعدم القيام بالواجبات، ومطبات الطرقات وحوادث الطريق والكوارث، وانهيار المنازل والحرائق وصدام القطارات وغرق العبَّارات، وهروب بعض المسؤولين عن ذلك. فلا شيء مفرح في حياته، ومن أين له الفرح؟ وكأن الحل هو تدمير الذات في إطار التدمير الشامل، و"الخلاص" عن طريق الانتحار مثل انتحار الجندي لفقدان الغاية من الحرب وتعرضه للموت في كل لحظة. وهو ما سماه الفلاسفة الانتحار الميتافيزيقي، إعدام الذات لغياب المعنى، وفقدان الإحساس بالغاية، وسيطرة العدم على كل شيء. هو الانتحار الذي يحول الوجود إلى عدم، والعدم إلى وجود. هو الانتحار الذي يجد في فقدان المعنى المعنى الوحيد. وهو يعادل ثقافة العنف في المجتمع الأميركي والرغبة في الشهرة في مجتمع يصنعه الإعلام ويوجهه. فالشاب في مثل هذه الحالة أيضاً لم يمتص المجتمع طاقاته ولم يعره أي اهتمام، فأصيب بإحباط داخلي وإحساس بالتهميش خارج منطقتي القوة والمال، النفوذ والثروة. فيأخذ، كما وقع في أميركا عدة مرات، مدفعاً رشاشاً ويصعد على سطح مدرسة ويطلق النار على التلاميذ في الفناء، أو يدخل على مدرج جامعة ويطلق النار على الطلاب، ثم ينتحر ظاناً بجنون أنه يحقق ذاته. فالآن سيتكلم عنه كل الناس، وتصبح صوره في كل الشاشات والقنوات الفضائية والصحف وشبكات المعلومات. ويسجل "أسباب" انتحاره على شريط أو في خطاب يبين فيه أسباب عدم انتمائه للمجتمع وخروجه المجنون عليه. والفرد صورة للمجتمع. ولا حل لفهم سلوكه في علم الجريمة، بل في الوضع السياسي والاجتماعي الذي يعيش فيه. فلو امتص المجتمع طاقاته، ولو رسخ فيه أهدافه وغاياته، ولو شعر أنه صاحب وظيفة في مجتمع لسلك الطريق الصحيح، وعرف أن القتيل ضحية مثله. فالمجتمع لم يحدد له هدفاً إلا الغنى والانتماء الطبقي والعزلة عن الناس. والقاتل لم ينتمِ إلى شيء، لا إلى قضية أو إلى هدف. لا حل إلا في الوضع السياسي وقدرة المجتمع على جذب الأفراد إلى غاياته وأهدافه. وهو ما تعرقله جمعيات أصولية مغلقة معادية للمجتمع ومكونة لمجتمع بديل. الانتماء الجزئي بديل مؤقت عن الانتماء الكلي. والسلم الحاضر حالة مؤقتة عن العنف القادم. لا حل للانتحار السياسي إلا عودة المجتمع إلى طريقه الصحيح وامتصاص طاقات كل أفراده، وانتماء كل أفراده إليه. لا حل إلا القضاء على الغربة بين الإنسان ووطنه، والمساهمة في قضايا الوطن والاشتراك في وضع الحلول لها. لا حل إلا القيام بدور حتى يشعر أن للحياة معنى وقيمة، حياته وحياة الآخرين. فلا ينتحر بل يحافظ على حياته. ولا يقضي على حياة الآخرين بل يساعدهم في الحفاظ عليها. لا حل إلا بسماع النظام السياسي صوته والاستجابة لمطالبه، وتعبيره عن حاجاته وتحقيقه لأهدافه، أن تكون المواطنة هي العلاقة بين الوطن والإنسان. والطريق إلى الحياة السياسية هي التعددية في الرأي، والروح الوطنية التي تعبر عن مصالح الناس. ويتأتى ذلك بعدم استبعاد أي مجموعة سياسية. وتشترك كل الأطراف السياسية في مشروع واحد وطني حتى تتحمل المسؤولية معاً ولا يشعر بعضها بالإقصاء. فليست مصر بأقل ديمقراطية من إسرائيل التي تشارك كل الأحزاب فيها في الحكم وتكون حكومة ائتلافية. ويتم تداول السلطة فيها. فنتانياهو ذهب ليعود. ومع تداول السلطة السياسية تشارك الأحزاب كلها في المحليات وإدارة شؤون المحافظات حتى يتعود المواطن على تحمل المسؤولية الاجتماعية والمدنية قبل المسؤولية السياسية العامة. وتكون حرية الرأي مكفولة للجميع، واستقلال الإذاعة والتليفزيون والصحافة عن أجهزة الدولة. وتظل في أيدي الأحزاب والمجموعات السياسية على طرف المساواة بينها جميعاً. وبالتالي يتعود المواطن على التعبير عن الرأي دون سجن أو إرهاب أو اتهام بالعمالة والخيانة. ويساهم المجتمع ككل في حل مشكلة التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء وذلك بإعادة توزيع الدخل القومي طبقاً لقيمة العمل وحده، وفك الحصار حول المدن الجديدة مثل "بيفرلي هيلز" و"الرحاب" و"الشروق" حتى لا تبقى وسط أغلبية غريبة، وترفع الحراسة من على الأبواب؛ لأنه لا أحد يحمي الوطن أفضل من المواطنين، وانتماء الأقلية الغنية إلى الأكثرية الفقيرة عن طريق المشاريع المشتركة. ويساهم المواطنون في الرقابة على جهاز الدولة وقطاع الصناعة من أجل القضاء على كل مظاهر الفساد والإثراء السريع والكسب غير المشروع. ويتعلم المواطن أن له حقوقاً كما أن عليه واجبات. فالمواطن لا يستجدي طبيباً ولا معلماً بل هو صاحب حق. له حقوق كما أن عليه واجبات. الوطن وطنه، والمجتمع مجتمعه، وليس غريباً عنه، طارئاً عليه. فإذا ما ارتفعت كرامة الوطن ارتفعت كرامة المواطن وشعر بأن الحياة جديرة بأن يحياها لا أن يقتلها ويقتل نفسه إنقاذاً له من الضياع.