رأب الصدع... بين أميركا والعالم ------------- على امتداد سنواتها الثماني، اتخذت إدارة بوش من السياسات والقرارات والأفعال، ما أسهم في عزل أميركا وإقصائها من الجزء الغالب من العالم، الذي لم يقف مكتوف الأيدي إزاء غطرستها واستئسادها عليه. فما العمل الآن، وقد ذهبت إدارة بوش، وانفتح الطريق أمام بداية جديدة لا تمكن أميركا من ترميم علاقاتها بدول العالم وشعوبه فحسب، بل تمكنها كذلك من استعادة دورها القيادي الدولي؟ وكيف السبيل لاستغلال هذه الفرصة؟ هذا الهدف الذي يعد أكبر عملية إعادة تنظيم للعلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هو موضوع الكتاب الذي نعرض الآن، لمؤلفه توماس بي. إم. بارنيت. وبذلك فإن الغاية تظل أكبر بكثير من مجرد عملية تصحيح مسار لسياسات أميركا وعلاقاتها بدول العالم وشعوبه في مرحلة ما بعد بوش. وحسب المؤلف فإن المطلوب هو إعادة تنظيم كامل لنشاط أميركا ودورها العالمي في عدة مجالات، أهمها الاقتصاد، الدبلوماسية، الدفاع، التكنولوجيا، الأمن، والبيئة.. إلخ. ثم إن المقصود بالقوى العظمى المشار إليها في عنوان الكتاب، ليس الدول الكبرى وحدها، إنما تفاعل وتداخل قوى الماضي والحاضر والمستقبل، وتأثيرها المستمر على تشكيل خريطة العلاقات الدولية سلباً وإيجاباً. أفرد المؤلف مساحة مقدرة من كتابه لمناقشة ما أسماه بـ"خطايا بوش -تشيني السبع القاتلة"، إلا أنه كرس الجزء الرئيسي من كتابه لمناقشة ما يجب عمله من أجل إعادة ترتيب علاقات أميركا مع الأسرة الدولية، وصولاً إلى استعادة مكانتها القيادية العالمية. وضمن "برنامج الخطوات الاثنتي عشرة لتعافي الاستراتيجية الأميركية" الذي اقترحه المؤلف، نراه يقول إنه لا يكفي لتعافي أميركا من عزلتها وقطيعتها مع بقية دول العالم خلال سنوات بوش-تشيني الماضية، أن تدرك أو تعترف بأخطائها وزلاتها، إنما المطلوب هو إصلاح ما انهدم في تلك العلاقات، ورأب الصدع القائم بين واشنطن وبقية دول العالم. يكرس الكاتب الجزء الأهم من دراسته لمناقشة خمسة عناصر أساسية لابد منها لرأب الصدع الأميركي. أولها العنصر الاقتصادي. وهنا تناول الكاتب الديناميات الاقتصادية خلال النصف الأخير من القرن العشرين. في مقدمتها بروز الصين باعتبارها قوة اقتصادية تجارية ضاربة عالمياً. ومن المنظور نفسه وقف المؤلف على تأثير النظام الاقتصادي الأميركي، على الاقتصادات الرأسمالية الناشئة لنحو 3 مليارات نسمة من البشر، في كل من الصين والبرازيل وروسيا والهند، إلى جانب العديد من الأسواق الصغيرة الناشئة حديثاً. وعلى عكس المخاوف التي تساور البعض أحياناً من النمو السريع والهائل الذي يحققه الاقتصاد الصيني، باعتباره يشكل منافساً خطيراً للاقتصاد الأميركي، يرى المؤلف أن في نهوض الاقتصاد الصيني وغيره من الاقتصادات الآسيوية، عوناً كبيراً لأميركا في سعيها لتعزيز وإعادة بناء اقتصاد العولمة. وفي المجال الدبلوماسي، يناقش المؤلف مشكلتين رئيسيتين وسمتا الاستراتيجية الأميركية خلال السنوات الثماني الأخيرة: توقعها المثالي غير الواقعي لإحراز نجاح فوري في جهودها الرامية إلى نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط -العراق وأفغانستان- وهوسها بالتطرف والإرهاب. ومن مخاطر هذا الهوس أنه أضاع فرصة ثمينة لبناء علاقات فاعلة مع إيران وعمق الهوة بينها وواشنطن. وآفة دبلوماسية بوش، تعويلها على الاستخدام المفرط للقوة عالمياً. وهذا هو التحدي الذي تواجهه إدارة أوباما الجديدة، إذ ينبغي عليها تغيير هذا المسار. ومن رأيه أن تسارع هذه الإدارة لإشراك القوى العسكرية الشرق أوسطية في جهودها الجارية في كل من العراق وأفغانستان. وبهذا الجانب يرتبط المجال الأمني الذي طغت فيه عقلية القوة المفرطة في عالم ما بعد حرب فيتنام. وهنا توقف المؤلف على ما وصفه بـ"العام الضائع في العراق" وهو العام الذي اتفق المراقبون على تحديد بدايته بمطالع شهر مايو 2003، حيث أعلن بوش عن "إنجاز المهمة" رغم أن النشاط المناهض للقوات الأميركية كان قد بدأ بالفعل منذ شهر أبريل في مدينة الفلوجة. من هنا يقفز المؤلف لمناقشة العنصرين الأخيرين: أولهما، تشابك دول العالم وشعوبه بفعل نمط اقتصاد العولمة. ولا يفلت من هذا التشابك -حسب رأيه- حتى الإرهابيين الذين لم يعد ممكناً لهم إدارة نشاطهم التجاري الاقتصادي خارج نمط العولمة. ويشير إلى أن التحولات الجارية في البنى التحتية لاقتصادات الكثير من الدول النامية، توفر فرصاً كبيرة للاستثمارات الغربية في ظل العولمة. ويختتم المؤلف مناقشته لهذه العناصر الرئيسية بتناول طائفة من القضايا الاجتماعية والاستراتيجية، من بينها علاقات أميركا بالثقافات الأبوية السائدة في العالم العربي، وتغلغل اقتصاديات العولمة في مختلف الشعوب والمجتمعات. وشملت هذه القضايا أيضاً استجابة الإدارة لكارثة إعصار كاترينا، بكل ما في تلك الاستجابة من عناصر ضعف لا يليق بأميركا. وكانت للمؤلف وقفته الأخيرة من موقف واشنطن من معاهدة كيوتو، ورفضها التعاون مع المجتمع الدولي في الحد من خطر التغير المناخي والاحتباس الحراري. فجميع هذه سلبيات وأخطاء يجب تصحيحها وتجاوزها وفق إعادة ترتيب جديد لعلاقات أميركا ببقية دول العالم وشعوبه. عبدالجبار عبدالله ---------- الكتاب: القوى العظمى: أميركا والعالم بعد بوش المؤلف: توماس بي. إم. بارنيت الناشر: مجموعة "بنجوين" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2009