تشير الدلائل إلى أن "مولانا صوفي محمد" رجل الدين المتطرف، الذي أُفرج عنه مؤخراً بعد قضائه ست سنوات في السجن بتهمة قيادة ما يقرب من عشرة آلاف من أفراد قبائل "البشتون" لمعارضة الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، قد بدأ حملة جديدة سيقود في إطارها مسيرة للسلام تمر عبر "وادي سوات" في محاولة لإقناع زوج ابنته "مولانا قاضي فضل الله" للقبول بعرض الحكومة الخاص بوقف إطلاق النار، وتطبيق الشريعة الإسلامية في مناطق الوادي. وحقيقة أن "صوفي" قد قبل بعرض الحكومة تمثل في حد ذاتها علامة على الكيفية التي احتوت بها إسلام أباد مطالب المتطرفين في المنطقة، كما أن حقيقة أن صفقة السلام هذه لم تُقبل بعد من قبل القاضي "فضل الله" الذي يرتبط بعلاقة تحالف مع "القاعدة"، هي أيضاً علامة على مدى التطرف الذي أصبحت عليه بعض أجزاء المنطقة. والتنازلات التي قدمتها الحكومة الباكستانية لـ"طالبان" في وادي "سوات" الذي يبعد 80 ميلاً عن إسلام أباد، تعتبر علامة مهمة كذلك على طريق مساعي البلاد المتواصلة لتلافي الوقوع في هاوية الفوضى. فالموقف هناك فاقم من حدة الشعور العام بالانقباض السائد في باكستان، بسبب الأعمال العدائية التي تشنها "طالبان" داخل ثاني أكبر دولة إسلامية في العالم، والوحيدة المسلحة بأسلحة نووية. ومما يشار إليه هنا أن رجال "فضل الله" قد خاضوا معارك دموية ضد الجيش خلال العامين المنصرمين. وخلال تلك المعارك فقد 1200 مدني حياتهم، وأُجبر350 ألفاً آخرون على مغادرة ديارهم (من إجمالي عدد السكان البالغ1.5 مليون نسمة)، كما فجر فضل الله 200 مدرسة بنات، وشنق رجال الشرطة، وأسس محاكم تعمل وفقاً لفهمه هو لقواعد الشريعة الإسلامية، هذا فضلاً عن تأسيس سلطة محلية موازية للحكومة المركزية. وبدلاً من إصدار الأوامر للجيش باستعادة "وادي سوات" رأينا حكومة حزب "الشعب" الباكستاني الذي يقوده زوج الراحلة بينظير بوتو، الرئيس "آصف على زرداري"، ومعه "حزب عوامي الوطني"، وهو حزب بشتوني علماني يدير الحكومة المحلية في "المحافظة الحدودية الشمالية الغربية" تعمل لاحتواء مطالب "طالبان" تجنباً للمزيد من العنف. وفي حين تصر الحكومة على أن التغيير القانوني سيسمح فقط بتطبيق محدود للشريعة من خلال المحاكم المحلية، فإن "طالبان" تفسر ذلك التغيير، بأنه يعني السماح لها بالتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية -حسب فهمها- في كافة مجالات التعليم، والإدارة، والنظام والقانون في المنطقة. وبصرف النظر عن الطريقة التي يمكن أن يتم بها تفسير هذا القانون، فإن ما لاشك فيه هو أنه يمثل تراجعاً محققاً في سياق المعركة الخاسرة التى تخوضها البلاد ضد قوى التطرف. وعلى رغم أن نظام الرئيس السابق "برويز مشرف" قد دخل في العديد من اتفاقيات وقف إطلاق النار المثيرة للجدل، وقصيرة العمر، مع "طالبان" باكستان في منطقة حزام قبائل البشتون، إلا أن جيشه لم يقدم أبداً أية تنازلات كبيرة تتعلق بالنظامين القانوني والسياسي كما فعلت الحكومة الحالية. وحتى في أفغانستان، التي تسيطر فيها "طالبان" على عدة ولايات، لم تتهاون حكومة كابول أبداً، في تنفيذ أحكام وقرارات الدولة. والمشكلة بالنسبة لهذه الاتفاقية التي لم يوقع عليها "زرداري" بعد هي أن "طالبان" قد لا تكتفي بوادي سوات فقط وإنما قد تتطلع إلى ما وراءه. ويمكن أن نستمد مؤشراً على ذلك من التصريح الذي أدلى به "صوفي محمد" الذي ينظر إليه كـ"معتدل" بالمقارنة مع زوج ابنته، والذي تعهد فيه بفرض الشريعة في مختلف أرجاء باكستان، كما شجب الديمقراطية، واعتبرها نموذجاً غربياً شريراً. يشار إلى أن استراتيجية "فضل الله" قد تأثرت بتنظيم "القاعدة" وغيره من التنظيمات المتطرفة التي تبحث عن ملاذ جديد تنتقل إليه هرباً من المناطق القبلية المجاورة لأفغانستان، والتي جعلت الهجمات الناجحة للطائرات الأميركية من دون طيار البقاء فيها صعباً للغاية. لذا فإن التهديد الإرهابي لا يقف عند حدود "وادي سوات". فـ"طالبان باكستان" تأمل أن تتمكن في نهاية المطاف من "غزو" سائر أرجاء البلاد. وقد تمكنت بالفعل من القيام بـ"غزوات" في أكبر ولايات البنجاب، وفي مدينة كراتشي الصناعية الجنوبية. ومما يسهل من عملها في هاتين المنطقتين وجود العديد من الجماعات الباكستانية المتطرفة التي ظلت تقاتل لعقدين في كشمير الهندية، والتي تتقن تماماً القيام بعمليات إرهابية في المناطق الحضرية. ومفهومٌ أن أزمة "وادي سوات" ستساهم في إضعاف الاقتصاد الباكستاني المترنح بالفعل، والذي يعاني من تفاقم البطالة، والتضخم، وفرار رؤوس الأموال، واحتمالات عودة مئات آلوف الباكستانيين العاملين في الخارج بسبب الركود العالمي. يشار في هذا السياق إلى أن إدارة أوباما وعدت بتقديم 1.5 مليار دولار سنوياً إلى باكستان على مدى السنوات الخمس القادمة لإنفاقها على المشروعات الاجتماعية.. بيد أنه من الصعب معرفة متى سيجعل الكونجرس الأميركي هذه المبالغ الضخمة متاحة، أو حتى ماهية الشروط الجديدة التي ستضعها الإدارة الأميركية مقابل تقديم تلك الأموال، أو ما إذا كانت الحكومة الباكستانية ستتمكن من الوفاء بها أم لا. وهذه الأزمة تأتي تماماً في الوقت الذي يتعين فيه على إدارة "أوباما" التفكير في سياسة استراتيجية جديدة تجاه أفغانستان وباكستان قبل انطلاق قمة "الناتو" في الثاني من شهر إبريل القادم. وبالنسبة لباكستان ليس لدى أميركا والحلفاء سوى خيار تقديم جرعات كبيرة من الأموال التي تحتاجها بصورة ماسة لمنح حكومتها وجيشها الوقت والمجال الكافيين لإعادة فرض القانون في تلك المنطقة الملتهبة. ولكن السؤال الذي يطرحه الكثيرون في واشنطن وغيرها من العواصم، ويطرحه الملايين من الباكستانيين هو: هل الحكومة والجيش في باكستان لديهما حقاً الإرادة والقدرة على القيام بذلك؟ أحمد رشيد ------ كاتب ومحلل سياي باكستاني ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"