كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن مسألة "انسحاب" اللغة العربية من مجالات المجتمع المختلفة، وبخاصة مجال التعليم، والآثار الخطيرة المترتبة على ذلك خاصة فيما يخص الهوية الوطنية. وكنت أتمنى أن نحتفل هذه السنة بيوم اللغة العربية الذي يصادف الحادي والعشرين من فبراير كل عام (حسب قرارات منظمة "اليونسكو") واللغة العربية عندنا في أفضل حال، أعني بذلك أن تكون لدينا استراتيجية للحد من زحف اللغة الأجنبية على مؤسسات المجتمع المختلفة وبخاصة التعليم الذي تحول في غالبيته إلى اللغة الإنجليزية في السنوات الأخيرة... وذلك رغم تحذيرات علماء النفس واللغة والاجتماع من هذه الظاهرة وخطورتها. ويتجلى الخطر هنا على عدة مستويات؛ مثل توسيع الشقة بين هوية المجتمع وواقعه، إضعاف الولاء للغة الوطنية. وكنت أتمنى أن يكون الهرم اللغوي والحراك الاجتماعي في المجتمع، مرتبطين ارتباطاً عضوياً باللغة العربية وليس اللغة الإنجليزية، لأن خطورة هذه الظاهرة، حسب أحد المهتمين كونها تؤدي إلى فقدان الكبرياء الفكري للأوطان وللأمم العربية وإلى تشكيك أبنائها في شخصيتهم الحضارية وذاتيتهم الثقافية. كل الدول تضع القرار السياسي الخاص بحماية لغتها الوطنية موضع التنفيذ الفعلي والحاسم، وتحاول وضع سياج قوي يحمي لغتها من خطر غزو اللغات الأجنبية، لأن اللغة هي أساس الهوية والشخصية الوطنية، وهي الوعاء الحضاري والثقافي والفكري للمجتمع، وأساس التقدم والنهضة. ففي فرنسا مثلاً، أصدر مجلس الشيوخ قراراً بمنع الحديث باللغة الإنجليزية في الوزارات والإدارات العامة، وتم منع أي لافتة باللغة الإنجليزية، بل إن السلطات الفرنسية رفضت استقبال باخرة قادمة من أميركا، فقط لأنها تحمل شحنة كبيرة من الأجهزة الإلكترونية لم يكن فيها دليل الاستخدام باللغة الفرنسية. ويكفي أن جاك شيراك الرئيس الفرنسي السابق، خرج من أحد المؤتمرات لأن أحد الفرنسيين ألقى خطاباً باللغة الإنجليزية. اللغة أيضاً، هي أساس الوحدة السياسية، وهذه بعض الأمثلة: ففي الولايات المتحدة الأميركية لم يحقق اتحادها تماسكه إلا بعد جهود مضنية لتوحيد اللغة بين فئات الشعب الأميركي، ولم يتكون الاتحاد السوفييتي السابق إلا بعد أن أصبحت له لغة واحدة هي الروسية، وكذلك الصين أيضاً، ولم تتحرر إيرلندا من الاحتلال البريطاني إلا بعد أن أصبحت اللغة الإيرلندية نواة دمج قوية تجمع الشعب الإيرلندي. وكانت ألمانيا حتى منتصف القرن الثامن عشر مقاطعات متفرقة متصارعة إلى أن ظهر الأديب الألماني "هردر" منادياً باللغة كأساس لوحدة الآري، فانطلق الأدباء يرسخون هذه الحقيقة حتى أصبح الشعب الألماني وحدة سياسية واحدة، وعمدت كوريا الجنوبية بعد الاستقلال إلى جعل اللغة الكورية لغة التعليم في كل المراحل التعليمية. والسؤال هنا: لماذا لا نكون مثل جميع الأمم التي عمل علماؤها على توطين لغتهم لاستيعاب كل العلوم؟ لماذا لا نفعل مثلما فعل الأوروبيون عندما نقلوا العلوم عن الحضارة الإسلامية ولم يكتفوا بترجمتها بل قرروا أن يكون تعلم هذه العلوم الإسلامية العربية المنقولة بلغتهم الوطنية، وهذا هو السر الذي جعلهم يبدعون ويبتكرون ويخترعون ويصلون إلى ما وصلوا إليه، وهي حقيقة أدركها كثير من علمائنا العرب قبل خمسين سنة من الآن وحاولوا أن يضعوها موضع التنفيذ. وأشير إلى الدكتور مصطفى مشرفة عالم الرياضيات الشهير الذي قال عنه ألبرت آينشتاين عندما علم بموته: "إنه حي بأبحاثه، إننا محتاجون إليه حيث أنه خسارة كبيرة، كنت أتابع أبحاثه فهو من أعظم علماء الطبيعة". هذا العالم أدرك هذه الحقيقة بدقة ووضوح عندما قال: لا سبيل لنهضة العرب وتقدمهم إلا باعتماد تدريس العلوم في مراحل التعليم المختلفة بلغتهم القومية، فذلك هو السبيل الصحيح للتعليم الحقيقي والجاد. فاللغة إذن أساس الهوية ومناط التقدم.