حركة "فتح"، جزء رئيسي من الطيف السياسي الفلسطيني وأكبر فصائل "منظمة التحرير الفلسطينية". تمخر سفينتها في بحر من "يسار الوسط" أو "يسار اليمين". حركة وطنية، تفجرت الثورة الفلسطينية المعاصرة مع انطلاقتها في الفاتح من يناير 1965. تبوأت قيادة المنظمة منذ عام 1969، وما زالت. ورغم هزيمتها في الانتخابات التشريعية عام 2006، فإن "فتح" ربما تكون ما زالت القوة الأولى. هذا، رغم محاولات "البعض الآخر" سرقة تاريخ ونضال الحركة ومحاولة تفصيل "فتح" على مقاساتهم الخاصة بعد أن ظنوا أنهم أكبر منها أو أدركوا أخيراً أنها أكبر منهم. غير أن استمرار الوضع الحالي للحركة، أي عدم الخروج من دائرة غياب المؤسسة وفوضى القرار، سيؤدي حتماً -مع أسفنا الشديد- إلى انقسامها، لاسيما أنها "تعيش أزمة بنيوية فكرية عاصفة". وفيما يتوالى منذ فترة تراجعها جماهيرياً، وتتأجج فيها الخلافات الداخلية، نجدها تفتقر للنهج المؤسساتي لإدارة نفسها (عجزها عن عقد مؤتمرها لمدة عشرين عاماً)، ولإدارة "السلطة الفلسطينية"، علاوة على فشل سياسي في انتزاع أي "مكسب" من إسرائيل. فهل هي أزمة قيادة، أم أزمة شرعية، داخل هيكلية الحركة؟ أم أنها أزمة رؤية للمستقبل؟ والأهم؛ هل هناك نخبة تشكلت وتنتظر دورها في القيادة؟ لا شك أن معاناة حركة "فتح" وتفاقم انقساماتها وتجاذباتها الداخلية، اكتسبت زخماً قوياً بعد اتفاقية أوسلو، حين تخلت عن منطلقاتها الأصلية لصالح بناء سلطة، فبات الصراع داخل الحركة مدخلا للفتنة الفلسطينية. هذا إضافة إلى ضغوط حثيثة لتحضير زعامة متوافقة مع مطالب إسرائيل الأمنية وحلولها السياسية عبر "قيادات" من خارج "فتح" تحاول الانضمام إلى الحركة (بعد أن وجدت هوى لدى فتحاويين) بهدف "إنجاز" برنامج فلسطيني أدنى من "برنامج الحد الأدنى" الفلسطيني. وهذا ما تتناقله وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، وتناقلته قبل ذلك قيادات فتحاوية بارزة حددت أسماء هؤلاء الذين هبطوا "بالبارشوت السياسي" أو جاؤوا من السراديب و"أتحفونا" بترداد نظريات التخويف الإسرائيلية من "حماس" بقصد إذكاء الاقتتال الداخلي وإفقاد الفلسطينيين وحدة صفهم الوطني. بل إنهم زادوا تهجمهم وتطاولهم على حركة "فتح" وقيادييها، ساعين إلى خلق حزب "كاديما" فلسطيني يتنكر للحركة الفتحاوية وتاريخها المجيد. في وجه هذه المساعي الخاصة، تصبح الأولوية لعقد المؤتمر السادس لحركة "فتح". أما لو تأكد عجز القيادة الفتحاوية الحالية عن تخطي العراقيل الموضوعة أمامها لعقد المؤتمر، لأسباب ذاتية وموضوعية، فلربما يكون الوقت قد حان لانبثاق حزب "كاديما" فتحاوي وليكن وطنياً أصيلا (ونستخدم لفظ "كاديما" من باب الاستعارة والتبسيط، مع الفارق الجوهري بين سفالة "الليكود" ونبل "فتح"). ومفترض، في هذا الحزب الأصيل، أن تكون الكوادر الكبرى والأساسية الفاعلة فيه عناصر فتحاوية وغير فتحاوية، وبخاصة من جيل الشباب، مع إمكانية ذوبان بعض "الفصائل" فيها. نعم، يتزايد الحديث عن ضرورة انبثاق "كاديما فتحاوية" مؤتمنة تعيد تثبيت "برنامج الحد الأدنى" فلسطينياً، ولا يرتهن قرارها بقرار السلطة بالضرورة، ولا "يتوظف" رجالاتها في مؤسساتها، ولا تتوزع أصواتهم بين طامع بالسلطة وحريص على الحركة، بل تكون حركة منحازة للمطالب الوطنية، ترضى بقيادة جماعية وتكون خطوتها الأولى إجراء إصلاح داخلي حقيقي. "كاديما فتحاوية" تقول نعم للنقد البناء بأسلوب لائق وحضاري تسود فيه روح المسؤولية والحرص على الصالح العام، لا التطاول والتهجم خدمة لمصالح شخصية. وتزداد الحاجة لانبثاق حزب كهذا مع وجود أطراف فلسطينية داخل الجسم الفتحاوي، مدعومة وربما منقادة لشخصيات ذات مصالح في الخارج، تشجع سياسياً ومالياً الانقلاب على حركة "فتح"، من خلال محاولات باتت معروفة لسحب البساط من تحت أقدام "فتح" الأصيلة بأساليب إفسادية شتى، مراهنين على الوقت المستقطع المتبقي في ظل احتمالية قيام حكومة يمينية إسرائيلية، فيما هؤلاء يحاولون استباق الوقت لخلق "مرجعية" جديدة تقدم التنازل تلو التنازل. ومكمن الخطر هنا أن ينجح هؤلاء في تسوية الأزمة داخل حركة "فتح" على حساب مشروعية القضية الفلسطينية بأبعادها كلها، وبالتالي يخسر الكل. إن المطالبة المتزايدة بـ"كاديما فتحاوية"، وفق الصيغة الأصيلة وليس التسلقية، سببه وجود أزمة متجذرة في "فتح"، وأن الإشكالية الأكبر التي تواجهها -فيما يطرح ويقال ويثار- هي وجود نتوءات شاذة ذات عقلية إقصائية غير تشاركية لم تستوعب إلى الآن التحولات الجارية على الساحة الداخلية الفلسطينية. وقد كانت هناك العديد من الأصوات الفتحاوية الاحتجاجية، من بينها مثلا بيان لـ 15 عضواً من القيادات الشابة من أعضاء مكتب التعبئة والتنظيم في الحركة في الضفة الغربية، والذين انتقدوا في ذلك البيان قيادتهم العليا وبعض أدائها. كما تعالت أصوات الكثيرين داعية إلى تنظيم "انتخابات داخلية تصلب وضع الحركة وتعزز مكانتها بين جمهورها وتخلق الرضا عن قياداتها، لأنه، حسب استطلاعات الرأي فإن حركة فتح تفوز دائماً بالمرتبة الأولى، لكن عندما تذهب إلى الانتخابات فإنها تخسر، وهذا مؤشر واضح على أن الناس مع برنامج فتح لكنهم ليسوا مع أداء أشخاصها". بألم شديد، لكن بعقل مفتوح، وأيضاً بقلب مفتوح، نقول: توجد في حركة "فتح" أزمة زعامة وأزمة سيطرة على الحركة بين جيلين. ومن المؤكد أن هناك أزمة هوية تجلت في نتائج الانتخابات للمجلس التشريعي في عام 2006! والمطلوب من "كاديما الفتحاوية" إعادة بناء الفكرة الجامعة والاتفاق على برنامج وخط سياسي واضح. فالمؤتمر السادس هو المفصل، لذلك فإنه لابد من التحضير الجيد لذلك لمؤتمر بقصد إنجاحه، ففشله سيؤدي إلى كارثة جديدة، والهدف ليس مجرد عقده، إذ لابد أولا أن يكون رافعة جديدة لحركة "فتح" وللحركة الوطنية الفلسطينية عامة. فالاجماع، ليس فقط لدى قيادات الحركة، بل لدى كل أطياف الشعب الفلسطيني، بأن "فتح" هشة وضعيفة أمر يضر بالقضية الفلسطينية، ورياح التجزئة والانقسام فيها تؤثر على مجمل العمل الوطني والمجتمع الفلسطيني، فالمأساة التي تعيشها "فتح" ستنعكس على الجميع وعلى مجمل العمل الوطني.