اقتبس عنوان هذا المقال من عنوان المحاضرة المهمة التي ألقاها العالم المصري الكبير "أحمد زويل" الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء، لاكتشافه زمناً جديداً غير مسبوق هو "الفيمتوثانية". وقد دعيت للتحاور مع زويل بعد المحاضرة. وعنوان المحاضرة ذاته يوحي بأن زويل قد انتقل من عالم الكيمياء إلى مجالات الفلسفة والتحليل الثقافي. وهذا مسار معتاد سبق لكبار العلماء مثل أينشتاين و"برتراند رسل" أن اجتازوه. ولعل هذه الظاهرة مردها إلى أن العالم الكبير الذي يكتشف نظريات جديدة، أو يخترع أدوات مستحدثة تحدث انقلابات في العلم المعاصر، غالباً ما ينتقل إلى عالم التأملات الفلسفية عن الكون، بحكم اقترابه من القوانين الأساسية التي تحكمه، أو إلى مجال التحليل الثقافي في محاولة أصيلة من جانبه للربط الوثيق بين العلم والمجتمع من ناحية، وبين العلم والثقافة من ناحية أخرى. والسؤال الجوهري الذي طرحه زويل وقدم بصدده إجابات مبهرة هو: ما العلاقة بين ثروات الأمم وثورات الفكر؟ وقد مارس تحليله الثقافي النافذ من خلال الحديث عن المناخ العلمي، الذي يتشكل أساساً من علماء بارزين ينتجون مدارس علمية متميزة لها تقاليدها وأتباعها، ويمارسون الاتصال فيما بينهم لتبادل المعلومات والمعرفة في جو طليق ليست فيه حدود على حرية التفكير، وتحكمه أعراف صارمة تتعلق بأساليب النشر العلمي في مجالات علمية محكمة، يتحدد على ضوء ما تنشره من أبحاث السبق العلمي للباحثين، الذين يكتشفون حقائق جديدة لم تكن معروفة من قبل، أو يقومون من خلال ما يطلق عليه "التجارب الحاسمة" Crucal experiments بإثبات أو نفي بعض الفروض العلمية المهمة التي ذاعت في الوسط العلمي، ولم تتح أدوات العلم السائدة في لحظة ما التحقق من صدقها. غير أن الجديد الذي قدمه زويل في محاضرته هو التحليل الثقافي للمجتمع، الذي يوفر الشروط الموضوعية للإبداع بأنماطه المختلفة. وأهم هذه الشروط قاطبة ضمانات حرية التفكير وحرية التعبير، وانتفاء الأعراف الرجعية التي تحرم التفكير، أو تضع قيوداً على حرية التعبير. وليس ذلك فحسب بل إن النظام السياسي ذاته لابد أن يؤسس على قواعد الديمقراطية، التي تسمح بالتعددية الحزبية والفكرية، والتي تبيح حرية التنظيم في شكل نوادٍ ثقافية وجمعيات علمية. لقد حاول زويل أن يربط بين صعود النظام الرأسمالي الأوروبي والثورات الفكرية التي قامت في بداية نشأته، وساعدت على تبلور الاقتصاد الصناعي الحديث، والذي كان أحد أسباب تراكم ثروة الدول الأوروبية. وقد حاولت في تعقيبي على القسم الأول من محاضرة زويل الذي عني فيه بالتحليل الثقافي، أن أقدم عرضاً تاريخياً ومعاصراً في آن واحد للارتباط الوثيق بين ثروات الأمم وثورات الفكر، منذ نشوء نموذج المجتمع الصناعي حتى بروز مجتمع المعلومات العالمي، الذي تشكل في ظل العولمة التي هي الظاهرة السائدة في عالم اليوم، والتي أثرت في كل الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية المعاصرة. ونقطة البدء التي ركزت عليها هي أن نموذج المجتمع الصناعي الذي قام على أساس وحدة أساسية هي "السوق" التي نظر لها "كارل بولاني" في كتابه الشهير "التحول العظيم"، نشأ في ظل المشروع الحضاري الأوروبي، والذي يجد عنوانه الأساسي في مصطلح "الحداثة". و"الحداثة" باعتبارها مشروعاً حضارياً مكتملاً تقوم على عدة أسس أولها: الفردية. وأساس الفكرة هنا ضرورة استخلاص الفرد باعتباره كائناً مستقلاً له حقوق سياسية وحقوق اقتصادية وحقوق اجتماعية، من براثن الشمولية التي كانت سائدة في المجتمع الإقطاعي الزراعي الأوروبي. أما الأساس الثاني لمشروع الحداثة الأوروبي فقد كان: العقلانية. وهي التي نظَّر لها عالم الاجتماع الألماني الشهير "ماكس فيبر". والنظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث نشأ وتبلور بفضل هذه العقلانية التي كانت وراء اختيار المشروعات الصناعية وتحديد طريقة تمويلها، وسبل تسويق المنتجات، بالإضافة إلى رسم خرائط فتح الأسواق. والأساس الثالث للحداثة: الاعتماد على العلم والتكنولوجيا، بالإضافة إلى تبني نظرية "خطية" Linear عن التاريخ الإنساني، ترى أنه يتقدم من مرحلة إلى أخرى. وهذه هي النظرية العامة للحداثة الأوروبية، غير أن هناك حداثات أخرى فرعية. أهمها على الإطلاق الحداثة السياسية، وهي تطبيق الديمقراطية شكلاً وموضوعاً، والحداثة الفكرية وهي التي رفعت شعار أن "العقل هو محك الحكم على الأشياء" وليس النص الديني. وذلك بعد أن قطع المجتمع الأوروبي علاقته بتراث الكنيسة التي مارست الجمود الفكري حتى عطلت نمو المجتمع، وطبقت الاستبداد السياسي مما أدى إلى انتشار القهر. وهناك أخيراً الحداثة الاجتماعية التي تقوم على أساس إعطاء الفرد ما يستحقه حسب مواهبه وإمكانياته، وليس وفقاً لانتماءاته القبلية أو العرقية. وفي ضوء مشروع الحداثة الأوروبي قام نموذج المجتمع الصناعي الرأسمالي الذي راكم ثروات الدول الأوروبية ليس فقط من خلال الإنتاج الداخلي، ولكن أيضاً عن طريق موجات الاستعمار التي قامت بها الدول الأوروبية العظمى لبلاد العالم الثالث. وقد ساد النموذج الصناعي الرأسمالي وانتشر في قارات متعددة، إلى أن قام نموذج صناعي اشتراكي ينافسه منافسة شديدة بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917. وعلى رغم اشتراك النموذجين في الانتقال من الزراعة إلى الصناعة إلا أن المشروع الشيوعي قام على أساس نظرية مختلفة للحداثة، فهو لا يقوم على أساس الفردية وإنما على أساس الجماعية، وتقييد حركة الفرد سياسياً، والسيطرة على تنقله من مكان لآخر. ودار التاريخ دورته، وإذا بالنموذج الصناعي الشيوعي يسقط نهائياً بانهيار الاتحاد السوفييتي ذاته، وتفككه، ولم يبق في الساحة إلا النموذج الصناعي الرأسمالي، الذي لحقه التطور عبر الزمن نتيجة تفاعله مع ظروف تاريخية متعددة، إلى أن وصل إلى صيغة "الليبرالية الجديدة"، التي تريد نفي دور الدولة الاقتصادي بالكامل، وفتح الطريق بلا حدود أمام حرية السوق. غير أنه مرافقاً لصعود العولمة التي هي بحسب تعريفنا الإجرائي لها "سرعة تدفق المعلومات والمعرفة ورؤوس الأموال والسلع والخدمات والبشر من مكان إلى آخر في العالم بغير حدود ولا قيود"، ظهر نموذج حضاري جديد خلفاً لنموذج المجتمع الصناعي وهو نموذج مجتمع المعلومات العالمي. ووحدة التحليل الأساسية في هذا النموذج ليست "السوق"، ولكن ما يطلق عليه "الفضاء المعلوماتي" Cyber space الذي يعد عالم الاجتماع الأميركي "كاستلز" هو المنظر الأكبر له بكتابه الموسوعي "عصر المعلومات"، الذي يضم ثلاثة مجلدات، هي المجتمع الشبكي، وقوة الهوية، ونهاية الألفية. وهذا المجتمع الجديد ليس -كما يشيع أحياناً- هو تكنولوجيا المعلومات، ولكنه نموذج حضاري متكامل، لا يقوم إلا على أساس الديمقراطية والشفافية وحرية تداول المعلومات، وحق كل مواطن في الحصول على أي معلومة مجاناً وفي أسرع وقت. ومجتمع المعلومات العالمي يتطور -ببطء وإن كان بثبات- لكي يصبح "مجتمعاً للمعرفة". وهذا المجتمع ينبني على أساس "اقتصاد المعرفة" حيث تمثل عملية إنتاج المعرفة وتحويلها إلى سلعة يتم تداولها في السوق العملية الأساسية في القرن الحادي والعشرين. ولا يمكن إنتاج المعرفة إلا في ضوء مناخ سياسي واجتماعي وثقافي يشجع الإبداع والابتكار. وهكذا ارتبطت ثروات الأمم في الماضي كما أكد زويل بثورات الفكر، وها نحن نشهد الآن الارتباط بين الثروة الناجمة عن مجتمع المعرفة بالثورة الفكرية الكبرى التي تعبر عنها العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية.