شهر واحد يفصلنا عن موعد القمة العربية الدورية القادمة المقرر عقدها في آخر مارس المقبل بالدوحة، وفقاً للترتيب الهجائي المتبع. وإذا حل موعد هذه القمة بدون تقريب المواقف، فقد تقود إلى تكريس الانقسام على نحو قد يفوق ما حدث إبان قمة دمشق في العام الماضي. ومن هنا أهمية تسريع وتكثيف التحركات الجارية سعياً إلى ترميم الوضع العربي المتصدع، ووضع حد لهذا الانقسام الذي تنفذ قوى إقليمية بين ثناياه مداً لنفوذها وسعياً إلى فرض "أجنداتها". ورغم أن هذه التحركات التي بدأت بعد الحرب على قطاع غزة، تحمل بعض الأمل في إمكان إنقاذ الوضع العربي، فقد يكون صعباً توقع نتائج سريعة لها بدون حل أزمة عدم الثقة التي يفوق أثرها السلبي حجم الخلاف الفعلي. وإذا كان الخلاف على التهديد الكامن في مشروع إيران الإقليمي يحول دون تجاوز الانقسام العربي، فلا خلاف على الخطر الإسرائيلي الذي أطل من صناديق الاقتراع في انتخابات الكنيست بعد أن جسدته الحرب على قطاع غزة. فثمة جموح إسرائيلي غير مسبوق يقترن بتحول قد يكون نوعياً باتجاه إسقاط خيار السلام. وكان جموح أقل حدة بما لا يقاس قد فعل فعله في دفع العرب إلى تجاوز الانقسام الذي أحدثه الغزو العراقي للكويت عام 1990 وتداعياته. فما أن فاز "الليكود" بزعامة نتانياهو بانتخابات 1996 حتى تهيأت الظروف لعقد قمة عربية أخفقت جهود متواصلة من أجلها منذ عام 1991. واستضافت القاهرة تلك القمة الطارئة في يونيو 1996. غير أن الوضع صار أكثر تعقيداً اليوم إلى حد أن تهديداً إسرائيلياً أكبر بكثير لم يعد كافياً لوضع حد لانقسام عربي يفاقم هذا التهديد ويوفر لإيران، في الوقت نفسه، فرصة تاريخية للتغلغل في المنطقة. ويعبر التحول الإسرائيلي المتواصل نحو اليمين، في أحد أبعاده، عن أزمة عنيفة جسدتها الانتخابات الأخيرة بعد أن أظهرتها الحرب على قطاع غزة. فلم تحقق هذه الحرب تغيراً معقولا من زاوية المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية. وحين يحدث ذلك في ظل تفوق إسرائيلي كاسح، فلابد أن يكون هناك خلل في إدارة الحرب. غير أن هذا المأزق الإسرائيلي، وما يقترن به من جموح، لا يقارن بأزمة التفكك العربي التي فاقمتها الحرب على غزة. فقد ثبتّت هذه الحرب الانقسام الذي حدث تجاه حرب 2006 على لبنان، وزادته تبلوراً وحدة، ولكن بدون العمق الإيديولوجي أو الاستراتيجي الذي قسم العرب إلى فريقين متناقضين يفصلهما سور كبير، سواء في الخمسينيات والستينيات (الحرب الباردة العربية التي كانت ساخنة في اليمن)، أو في أواخر السبعينيات عقب اتفاق كامب ديفيد، أو في مطلع التسعينيات بعد الغزو العراقي للكويت. وقد تجاوزت حدة الانقسام العربي مساحة الخلاف الحقيقي بين فريقين تغيب الثقة بينهما بأكثر مما يفصلهما تناقض المواقف. فكانت المحصلة ضعفاً وارتباكاً وصلا إلى حد العجز عن التوافق سواء على عقد قمة طارئة أو تحقيق أفضل استثمار ممكن للقمة الاقتصادية التي كان مقرراً عقدها في 19 يناير. فكان أن أُحبطت محاولة عقد قمة عربية طارئة في الدوحة، وفُرغت القمة الاقتصادية في الكويت من مضمونها دون أن تكتسب مضموناً آخر. لقد انشغل الفريق المسمى ممانعاً بالبحث عن موقف ضد العدوان الإسرائيلي أراد أن يكون أقوى على مستوى الخطاب وليس على صعيد الفعل المؤثر. وانهمك الفريق الذي يعتبر معتدلا في السعي إلى إنهاء العدوان في حدود إمكانات أطرافه، فلم يلتفت البعض إلى أهمية اتخاذ موقف كلامى أقوى، فيما رأى البعض الآخر أن مثل هذا الموقف قد يكون على حساب التحرك الذي استهدف وقف الحرب. لكن انشغال أحد الفريقين بالكلام قليل الجدوى والآخر بالحركة محدودة التأثير لم يحل دون انشغال كل منهما بالآخر، على نحو أنتج إحدى أكبر المعارك اللفظية في تاريخ الخلافات العربية والشرق أوسطية، خصوصا بين مصر من ناحية وإيران وسوريا و"حزب الله" من ناحية أخرى. وساهم في ذلك ارتباك السياسة المصرية نسبياً في الأيام الأولى للحرب نتيجة عوامل من أهمها المبالغة في ثلاثة سيناريوات غير واقعية: أولها سيناريو جر القاهرة إلى حرب تضعف قدراتها على نحو يدعم محاولة إيران للهيمنة على المنطقة. وثانيها سيناريو توريط مصر في قطاع غزة على نحو يؤدي إلى تحميلها ما لا تطيق وتصفية قضية فلسطين في آن معاً. وثالثها سيناريو تهجير قسم من سكان هذا القطاع إلى سيناء، هذا فضلا عن شيء من المبالغة في أثر الجوار المباشر حين تحكمه حركة إسلامية "إخوانية" على الوضع الداخلي في مصر. ورغم أن التحسن السريع الذي حدث في أداء السياسة المصرية، كان هجوم الفريق العربي الآخر عليها قد سمم الأجواء في وقت لم يكن بإمكان دول وقوى هذا الفريق تفعيل موقفها الذي كان أقوى كلامياً ولكن بلا فاعلية. فالإجراء العملي الوحيد الذي تمكن هذا الفريق من اتخاذه هو إعلان قطر وموريتانيا تجميد العلاقات مع إسرائيل. وفيما عدا ذلك، كان الدعم الذي قدمه للمقاومة في قطاع غزة سياسياً وإعلامياً، سواء بشكل منفرد أو عبر القرارات التي صدرت عن قمة غزة بالدوحة، التي كان من بينها الدعوة إلى وقف كافة أشكال التطبيع، والمطالبة بتعليق المبادرة العربية للسلام، إضافة إلى قرارات لإدانة إسرائيل والمطالبة بإنهاء عدوانها، وأخرى لرفع الحصار عن قطاع غزة وتقديم المساعدات الإنسانية وإنشاء صندوق لإعادة إعماره. فلم يكن ممكناً، في ظل الانقسام الذي أنتج حرباً كلامية حادة، تفعيل موقف دول وقوى هذا الفريق رغم أن انضمام قطر إليه دعم مركزه نسبياً. كما أدى الحراك الذي حدث في موقف قطر، باتجاه هذا الفريق، إلى تشجيع الجزائر على التحول نحوه بوضوح أكثر من ذي قبل، وتحفيز موريتانيا على الاقتراب منه، ودفع عُمان إلى التمايز نسبياً عن فريق الاعتدال. ولكن في المقابل، لم يعد بإمكان قطر أن تقوم بدور توفيقي بين الفريقين كانت الحاجة ماسة إليه. ولو أنها قامت به وسعت إلى التقريب بين طرفي الانقسام، بدلا من الانضمام إلى أحدهما، لربما أمكن تحسين الأداء العربي العام، خصوصاً وأنها هي التي ستستضيف القمة العربية القادمة. وفي ظل التفكك الذي نجم عن الانقسام العربي، برز دور تركيا التي أبدت قدرة عالية على منافسة إيران. فقد أدارت أزمة الحرب إدارة جيدة، وأظهرت أداءً مميزاً، بينما قلّ الوهج الإيراني نتيجة عدم قدرة طهران على تقديم مساندة فعلية للمقاومة في قطاع غزة، وتحلي حليفها العربي الرئيس (حزب الله) بضبط النفس. ولذلك لم تكن هناك إمكانية لأن تحصد إيران مكسباً مماثلاً لما جنته إبان الحرب على لبنان عام 2006. وعندما رفض المرشد الأعلى خامينئي طلب شبان إيرانيين التوجه إلى قطاع غزة لمساندة المقاومة، بدا أن حسابات الدولة التقليدية تغلبت على التزامات دولة الممانعة. وكان هذا طبيعياً ليس فقط بسبب الصعوبات اللوجستيكية التي تحول دون تقديم مساندة عملية للمقاومة في غزة، ولكن أيضاً لأن إيران تتأهب لاحتمال بدء مرحلة جديدة في ظل اتجاه إدارة أوباما نحو الحوار معها. وهكذا لم يكن الأداء الإيراني في هذه الأزمة موفقاً، بخلاف الأداء التركي الذي جمع بين موقف قوي ومستقيم ضد الحرب، ونقد غير مسبوق للسياسة الإسرائيلية حتى قبل معركة دافوس بين أردوغان وبيريز، وتحرك فعلي للمساهمة في جهود وقف العدوان من ناحية، ووضع حد للانقسام العربي من ناحية أخري. ورغم أن السياسة التركية لا تنطوي على تهديد للعرب، بخلاف مشروع إيران الإقليمي الذي يمثل خطراً على القسم الأكبر منهم، يظل ازدياد نفوذ أنقرة معبراً عن وجود فراغ ناجم عن تفككهم الذي يشتد خطره في لحظة يتعاظم فيها الجموح الإسرائيلي الذي يبقى هو مصدر التهديد الرئيسي في الشرق الأوسط.