استجابة لدعوة تلقَّيتُها من رهط من الباحثين في مدينة حلب، التقيتُ مثقفين منحدرين من مرجعيات أيديولوجية ومنهجية متعددة ومختلفة، كان ذلك في أسبوع منصرم، وجاء تحت عنوان: الأصولية الإسلامية العربية وإمكانات اللَّف عليها من موقع الثقافة اللبنانية الإنعزالية. والحق، إن هذا العنوان وإنْ تضمَّن عدداً من المشكلات والصعوبات التاريخية والقومية والإثنية والدينية، فهو عنوان يعبّر عن إشكالية ثقافية سياسية في الفكر العربي المعاصر، نعني خصوصاً إشكالية إنتماء الثقافة اللبنانية. أما مصطلح "الثقافة الإنعزالية" فقد جرى طرحه وتداوله تحديداً في لبنان، على امتداد الحروب والاضطرابات، التي مرت به منذ مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي وحتى الآن. ويبرز المضمون الرئيسي لهذا المصطلح فيما أنتجته قوى ثقافية وسياسية لبنانية من مفاهيم وقيم تتمحور حول انتماء لبنان القومي (أو الوطني) وخصوصيته الثقافية واللغوية والحضارية العامة. وفي لُجَّة الصراع السياسي والثقافي والعسكري، الذي خاضه لبنان داخلاً وخارجاً (مع إسرائيل)، تكوَّن تيار ثقافي سياسي عبّر عنه جمع من المثقفين والسياسيين اللبنانيين، منهم كميل شمعون (رئيس جمهورية) وشارل مالك وسعيد عقل وفؤاد أفرام البستاني. أما الموضوعات المركزية التي تناولها هؤلاء، وكوَّنت منظومتهم المفاهيمية والقيمية، فلعلها تُفصح عن نفسها في التالي: الخصوصية التاريخية والثقافية اللبنانية، والخصوصية اللغوية، وكون الثقافة اللبنانية سليلة التراث اليوناني، واللاتيني والروماني والأوروبي. وفيما يتعلق بالعرب وبالتاريخ العربي، فإن لبنان أقدمُ من أولئك ومن تاريخهم، بحيث يكوّن تاريخاً لبنانياً خاصاً ضمن التاريخ "الكياني الغربي". أما المسألة المتصلة بالثقافة اليونانية المعنية هنا وبما يجمع بينها وبين "الأصولية الإسلامية أو الإسلامية العربية"، سلباً أو إيجاباً، فتتحدد في نمط من قراءة التاريخ العربي الإسلامي أو الإسلامي العربي، قام باستنباطه أحد "البساتنة"، وهو فؤاد أفرام البستاني، حين أجرى قراءات أولية لمرحلة ما قبل الإسلام، وأظهر اهتماماً خاصاً بهذه المرحلة، نعني "الجاهلية". فكما اهتم "البساتنة" -وهذا تعبير عن الأسرة التي اهتمت بكيفية خاصة بالتاريخ الثقافي واللغوي للنهضة التي انطلقت في بعض البلدان العربية حديثاً- بالثقافة العربية، كان كذلك اهتمامهم باللغة العربية واضحاً، وذلك انطلاقاً من المرجعيات التاريخية ما قبل الإسلامية العربية. لقد تمركز اهتمام فؤاد أفرام البستاني الأدبي اللغوي في دراسة المرجعيات التاريخية والدينية لبعض شعراء العربية، ومنهم تخصيصاً ابن الرومي، فوجد ذلك ماثِلاً في "النصرانية" وليس في "المسيحية"، أو في الإسلام، أو في هذا وفي غيره جميعاً. ووفق السياق البستاني، فقد كان من شأن هذا أن يعني أن البنية العربية الإسلامية أو الإسلامية العربية لم تدخل في حساب ابن الرومي وحساب الباحث الحديث فيه (أي البستاني). إن الإسلام والعروبة يتم فصمهما من التاريخ العربي والإسلامي، وإذا دققنا في ذلك ضمن العنوان المطروح هنا، فإنا نكون قد أقصينا الأصولية الدينية الإسلامية، وما تتصل به من ملحقات عروبية، من الثقافة "اللبنانية الكِيانية"، فهذه الأخيرة هي، كما مرّ معنا وحسب ذلك، حصيلة مكثفة متراكمة للتراث اليوناني واللاتيني والروماني والأوروبي المتراكم على امتداد آلاف السنين. في هذه الحال، تكون الأصولية ليست حالة ذهنية أيديولوجية محكومة بالتاريخي، بقدْر ما تغدو وضعية أبدية متلبِّسة في التراث العربي (الإسلامي)، من حيث هو، بنية ووظائف وآفاق. وبتعبير آخر، إن حديثاً عن العروبة والإسلام إنما هو حديث عن أصولية قومية عرقية ودينية إسلامية. وهذا ما يتجلى في كثير من المقولات المنتشرة راهناً في أوساط غربية استشراقية، كما في حقول سياسية عولمية ذات مرجعية تتصل بمعضلة الإرهاب المعاصر. إن إعادة النظر بتلك المقولات والتصورات حول العروبة والإسلام تمثل ضرورة حاسمة على طريق المشروع العربي النهضوي التنويري، ومن ثم، فإن إعادة النظر المذكورة تمثل الوجه الأول من القضية، أما وجهها الثاني فيتجلى بالقيام بدراسة تاريخية وعقلانية نقدية للفكر العربي ماضياً وراهناً ومستقبلاً، تُفضي إلى التأسيس لذلك المشروع، الذي غدا نجاحه ضرورة وجودية و(سياسية)، بعد أن كان ذا ضرورة سياسية اجتماعية. ومن شأن هذا القيامُ بفحص ما قدمه باحثون ومفكرون ومثقفون عرب وأجانب جاء تحت عناوين تحتاج هي نفسها نقداً يحقق شرطين اثنين، التاريخية (أي اعتبار التخلف العربي ظاهرة تاريخية)، والمعرفية العقلانية القائمة على منهج التفكيك والتركيب المشخّصين.