ندرج في هذا المقال الفقرة الثالثة (ما قبل الأخيرة) من النص الذي تحدثنا عنه وعن مناسبته في تقديم الفقرة الأولى منه، المنشورة في هذا المكان بتاريخ 3 فبراير الجاري. إذا كانت العولمة نظاماً يقفز على الدولة والأمة والوطن، فهو يعمل، على الأقل كنتيجة لذلك، على التفتيت والتشتيت. إن إضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤدي حتماً إلى استيقاظ أطر للانتماء سابقة على الدولة أو منافسة لها ومتصادمة معها، كالقبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي. والنتيجة تفتيت المجتمع وتشتيت شمله، مما يجعل الدولة، أو ما سيتبقى منها، منهمكة في شأن واحد هو الحفاظ على "الأمن" و"النظام". والسؤال الذي يفرض نفسه، بالنسبة للوضع العربي ولبقية العالم الثالث هو: كيف يمكن تحقيق نهضة أو تنمية إذا أصبحت الدولة مجرد دركي يحافظ على "الأمن" لفائدة "الفاتحين الجدد": الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسية التي شعارها، كما قلنا: "أكثر ما يمكن من الربح بأقل عدد من المأجورين؟". ثم ماذا ستعنيه "السياسة" و"الديمقراطية" في عالم العولمة هذا؟ السياسة في أصل معناها اليوناني هي "تدبير المدينة"، والمقصود المدينة/ الدولة. والتدبير هنا يكون بمساهمة "المواطنين" في المناقشة واتخاذ القرار، وسيلتهم في ذلك تبادل الرأي ومقارعة الحجة بالحجة وإقرار رأي الأغلبية كقانون يعلو على رغبات الأفراد. ولا يختلف عن هذا المعنى ما يقصد بالسياسة في عالمنا الراهن. كل ما في الأمر هو أن الدولة الحديثة أصبحت أكبر حجماً من "المدينة"، وبالتالي أشد تعقيداً مع مهام ووظائف أوسع. ولذلك فقد لا نبتعد كثيراً عن الصواب إذا وضعنا الدولة مكان "المدينة"، في التعريف المذكور، وقلنا: السياسة هي تدبير شؤون الدولة. وشؤون الدولة الحديثة كثيرة ومتشعبة: منها شؤون الوطن: حماية حدوده ووحدة أراضيه وشعبه، والدفاع عن سمائه ومياهه... الخ. ومنها شؤون الأمة: خيراتها الاقتصادية واستقلالها السياسي وتراثها الثقافي... الخ. ومنها شؤون التسيير: الشؤون التي تتولاها الدولة بوصفها هيئة تنوب عن الأمة في ممارسة السلطة للحفاظ على الأمن وتحقيق العدل والتخطيط لمشاريع التقدم والنمو وتنفيذها، والتعامل بالند مع الدول الأخرى للدفاع عن مصالحها الخارجية الاقتصادية منها والاستراتيجية وغيرها. والسياسة، أو تدبير شؤون الدولة -هذه الشؤون العديدة المتنوعة المتشابكة- عملية تتم في الأنظمة الديمقراطية من خلال التعبير الحر كحق لجميع المواطنين، ويتراوح بين التعبير بالقلم واللسان في الصحافة وغيرها، وبين التعبير بالاقتراع على تنصيب الحاكمين أو إقالتهم، وعلى ما يسنونه من قوانين... الخ. وهذه هي الديمقراطية. والسؤال الآن هو: ماذا يبقى في السياسة في نظام العولمة الذي يبتلع تلك الشؤون ابتلاعاً؟ ثم ألا تتعارض العولمة، على طول الخط، مع ما يرفع من شعارات تنادي باحترام حقوق الإنسان وإقرار الديمقراطية... الخ؟ والواقع أنه إذا كانت السياسة هي تدبير شؤون الدولة، فإن شؤون الدولة تبتلعها العولمة: إن العولمة تعني أول ما تعني رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية، الاقتصادية منها والإعلامية، لتمارس سلطتها بوسائلها الخاصة ولتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام... الخ. وهكذا تتقلص شؤون الدولة إلى شأن واحد تقريباً هو القيام بدور الدركي لنظام العولمة نفسه. وإذا تقلصت مهام الدولة بهذا الشكل انحسر مجال السياسة. بالفعل، في نظام العولمة يتقلص دور الدولة كمراقب وموجه للمجال الاقتصادي إلى درجة الصفر، أو على الأقل يراد منه ذلك. أما في مجال الاتصال والإعلام والثقافة فالمراقبة أصبحت مستحيلة عملياً، إذ لم يعد للدولة في هذا المجال سوى خيار واحد هو تسهيل الاتصال وسريان الإعلام لفائدة الشبكات العالمية. أما السياسة الخارجية في هذا النظام -نظام العولمة- فتتولاها بصورة مباشرة أو غير مباشرة مؤسسات ما يسمى بـ"المجتمع الدولي" وعلى رأسها مجلس الأمن. هذا فضلًا عن التأثير الذي تمارسه المؤسسات الاقتصادية "العالمية" مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. وجميع هذه الشؤون التي تنتزعها العولمة من الدولة الوطنية تنتزعها أيضاً من السياسة فتتركها بدون موضوع. لقد كانت السياسة تمارس، إلى عهد قريب، من خلال النقاش والاختلاف والاتفاق حول شؤون الدولة التي عددناها. كانت الأحزاب مثلًا تتمايز بتنوع برامجها، باختلافها وتناقضها. كان هناك في الجملة اختياران اقتصاديان اجتماعيان تمارس فيهما ومن خلالهما السياسة: أحدهما يوصف بـ"اليسار" والآخر ينعت بـ"اليمين"، مع ما في كل منهما من درجات وتعدد وتنوع، الشيء الذي يفسح للممارسة السياسية مجالاً أوسع وأرحب. أما اليوم فالعولمة تفرض طريقاً واحداً وفكراً وحيداً: الليبرالية ولا شيء غير الليبرالية التي تعني اليوم الخوصصة والعولمة. ومن هنا هذه الظاهرة التي بدأ الناس يلاحظونها في السنين الأخيرة، ظاهرة تشابه برامج الأحزاب السياسية إلى حد التطابق. وسواء تعلق الأمر بالانتخابات في الولايات المتحدة أو في فرنسا أو في دول أوروبية أخرى فالاختلاف بين الأحزاب المتنافسة، سواء على مستوى منطوق الخطاب أو على مستوى فحواه، يكاد ينعدم، وذلك إلى درجة أن الدعاية لهذا الحزب أو ذاك لم تعد تجد ما ترتكز عليه سوى بعض الأمور الهامشية التي لا علاقة لها أصلاً بالسياسة. والغريب في الأمر أن غياب الاختلاف على المستوى السياسي يدفع المنظمين للحملات الانتخابية إلى البحث عن نواقص "أخلاقية" في عالم لم يعد فيه للأخلاق مكان، عالم يشكل فيه "النجاح" القيمة العليا التي تعلو على كل القيم. والشيء نفسه نلاحظه في العالم "الثالث" حيث تبتلع الدولة، دولة الفرد أو دولة الحزب، المجال السياسي كله. وبما أن العولمة تبتلع بدورها هذه الدولة نفسها فهي تبتلع في الوقت نفسه المجال السياسي ذاته. وتبقى التعددية الحزبية، إن وجدت، بدون لون ولا طعم: فالاختيار المتاح واحد وحيد، يعبر عنه بعضهم بـ"الاندماج" في السوق العالمية، بينما يفضل بعضهم الآخر استعمال لفظ "التكيف"... وفي كلتا الحالتين يصدق المثل القائل: "مكره أخاك لا بطل". هذا عن الأحزاب السياسية. أما المواطنون في عالم العولمة فهم صنفان: المستهلكون للعولمة المندمجون فيها المشدودون إلى "الخارج" -خارج الدولة والأمة والوطن- وهؤلاء مشغولون ومستلبون في عالمهم اللامرئي، عالم "الاتصال" الذي لا يسمح بالانفصال. والسياسة تموت مع فقدان إمكانية الانفصال، إمكانية الاستقلال بالرأي. هؤلاء إذن يعيشون في عالم اللاسياسة. أما الصنف الثاني من المواطنين فهم جموع المحرومين المنبوذين من عاطلين عن العمل ومسرَّحين ومهمشين ومقهورين... الخ. هؤلاء تريد إيديولوجيا العولمة تركهم -كما ذكرنا- لـ"قانون اصطفاء الأنواع". (ملاحظة إضافية: "قانون اصطفاء الأنواع" -أو "الاصطفاء الطبيعي"، ويعبر عنه أيضاً بـ"البقاء للأصلح" أو "نظرية النشوء والارتقاء"- قال به داروين في مجال البيولوجيا في كتابه "أصل الأنواع"، حيث قال بـ"نشأة الأنواع الحية عن طريق الانتقاء الطبيعي أو الاحتفاظ بالأعراق المفضلة في أثناء الصراع من أجل الحياة". وهذا الرأي كان وما يزال موضوع أخذ ورد في المجال البيولوجي نفسه. أما تمديده إلى الحياة البشرية فمسألة إيديولوجية وظفتها النظريات العرقية في أوروبا وكانت وراء قيام النازية، وتوظيفها هنا يعني أن الدول والأمم والشعوب التي لا تقدر على المنافسة العولمية سيكون مصيرها الانقراض!).