أفردت الأسبوعية البريطانية الرصينة "نيوستيتسمان" صفحات مطولة في عددها الأخير للحديث عن وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند، مع صورة كبيرة له تحتل صفحة الغلاف. العنوان الرئيسي المرافق للصورة يقول: "هل ينقذ هذا الرجل بريطانيا؟" وفي التغطية الداخلية هناك افتتاحية للمجلة وتقرير مطول من قبل مراسل الصحيفة "جيسون كولي" الذي رافق ميليباند في رحلته إلى الهند إثر تفجيرات مدينة مومباي. وقد أتاحت له أيام الزيارة الحديث مطولًا مع وزير الخارجية واستكناه طريقة تفكيره ومراقبته عن كثب أثناء تعامله مع قضايا حساسة وشائكة (الهند واتهاماتها لباكستان بأنها كانت وراء التفجيرات، ورفض بريطانيا لإصدار بيان رسمي يدين باكستان كما طلبت الهند). وفي الوقت نفسه قابل "كولي" كثيراً من كبار موظفي الخارجية البريطانية وسألهم عن رأيهم في أداء ميليباند. يومياً وأسبوعياً هناك مقابلات لا تحصى مع سياسيين ربما في كل الصحف والدوريات وفي غالبها لا تحمل الكثير. لكن قليلها، وهذه المقابلة من بينه، يستحق التوقف عنده ملياً، ففيها إشارات عديدة يمكن أن تدلل على أننا على عتبة سياسة خارجية بريطانية جديدة، إزاء قضايا كثيرة من ضمنها الشرق الأوسط، ومن المهم بالتالي الانتباه إليها. الأمر البنيوي الأولي الذي تشير إليه المجلة هو أن مرحلة "اختطاف" السياسة الخارجية من قبل رئاسة الوزراء خلال عهد توني بلير، وتحييد ماكينة وزارة الخارجية، قد انتهت، وهذا شيء إيجابي كبير. فخلال عهد بلير تعطلت دوائر وآليات صنع القرار التقليدية، وأصبحت السياسة البريطانية انفرادية يقودها بلير وعلى وقع سياسة جورج بوش خطوة بخطوة. وخرج الامتعاض والتذمر من داخل الوزارة ليصبح أمراً علنياً. مواقف الأقسام المتخصصة في الخارجية، وتحديداً قسم الشرق الأوسط إزاء حرب العراق وفلسطين، كانت على الدوام أفضل بكثير وأعمق وأشد حساسية من مواقف توني بلير المندفعة وشبه المؤدلجة. والأمر البنيوي الثاني يتعلق بقدوم أوباما وبداية سياسة أميركية مختلفة إزاء ملفات عالمية كثيرة من ضمنها القضايا الشرق أوسطية، تقوم على التعددية والتعاون وتنأى بنفسها عن أحادية بوش. وما زال من المبكر، بطبيعة الحال، الحكم على مدى افتراق "الأوبامية" عن "البوشية"، لكن يمكن القول بقدر كبير من التأكد إن السياستين مختلفان بشكل واضح. ميليباند في أحاديثه لـ"نيوستيتسمان" يؤكد نهجاً بريطانياً جديداً إزاء "العلاقة الخاصة" بين بريطانيا والولايات المتحدة تفترق عن نهج توني بلير. فخلال السنوات الماضية كان بلير يرى أن بريطانيا تلعب دور "الجسر" بين أوروبا والولايات المتحدة، وتعمل على عدم توسع الفجوة في الموقف إزاء القضايا الدولية فتشد الولايات المتحدة وأوروبا إلى بعضهما بعضاً. وكان هذا التوصيف للدور البريطاني يثير حفيظة الأوروبيين الذين لطالما اتهموا بريطانيا بنقص في أوروبيتها. ويريد ميليباند أن تكون بريطانيا جسراً معولماً لتنفتح على جهات مختلفة، ولا تكون خيطية محصورة في دور وظيفي بين أميركا وأوروبا. وفيما يتعلق بفلسطين يقتبس مراسل المجلة عن ميليباند قوله إنه "إذا لم تحل هذه القضية فإنها تزداد سوءاً سنة بعد سنة، ويتعقد حلها أكثر فأكثر. إن نهاية اللعبة واضحة: الأمن لإسرائيل والعلاقات الطبيعية مع العالم العربي. الفلسطينيون لا يستطيعون تقديم هذا الأمن لإسرائيل، بل يتطلب الأمر مشاركة كل العالم العربي. وما يمكن أن تقوم به إسرائيل في المقابل هو إعطاء الأرض للفلسطينيين. يجب أن يعطي الإسرائيليون الأرض بحسب حدود عام 1967 مع بعض الزيادة والنقصان وفق مبدأ تبادل الأراضي... والإجماع الدولي متحقق إزاء تسوية عادلة لقضية اللاجئين واعتبار القدس عاصمة للدولتين. ولا يمكنني تخيل عدم قيام دولة فلسطينية...". وفي تعليقه على سؤال من الصحفي فيما إن كانت بريطانيا ستفتح حواراً مع "حماس"، قال ميليباند إن "الجامعة العربية أوكلت مصر للحديث مع حماس. السوريون والأتراك يتحدثون إلى حماس، ونحن نتحدث مع السوريين... وبكل الأحوال ليس هناك نقص في الأطراف التي تتحدث مع حماس". وتعلق المجلة آمالًا عريضة على ديفيد ميليباند ليس في تغيير صورة بريطانيا الخارجية فحسب، بل وتدعمه بشكل مثير ليكون القائد المستقبلي لحزب "العمال". وتدفع عنه شبهة "البليرية" لتلمع صورته بكونه صاحب خط جديد يختلف تماماً عن بلير، وتراهن على شبابه وصغر عمره وبكونه تسلم وزارة الخارجية وهو لم يتعدَّ الـ41 سنة بعد أن تقلد عدة مناصب رفيعة في وزارات حكومات "العمال". عربياً وشرق أوسطياً تواجه بريطانيا مهمة عسيرة وطويلة تتمثل في التخلص من الإرث "البليري" الذي انحط بصورة وسياسة بريطانيا بسبب التصاقها المدهش بالسياسة الأميركية في حقبة بوش. في تلك السنوات تقدمت السياسة الفرنسية والإسبانية والإيطالية، فضلًا عن الروسية، لتحتل مواقع جديدة وغير مسبوقة، وجزئياً على الأقل بسبب التماهي البريطاني مع سياسة واشنطن المحافظة الجديدة. ولاشك أن التخلص من ركام سياسة بلير والشلل الذي أورثه لصورة بريطانيا في الشرق الأوسط يتطلب سياسة فاعلة ومستقلة يكون مركزها قضية فلسطين. وإذا لعبت بريطانيا دوراً فعالاً وإيجابياً وجديداً في هذا الملف وحققت ما لم تحققه الأطراف الأخرى فإنها ستستعيد ما فقدته من نفوذ. وبدون ذلك فإن كل الإجراءات التجميلية والإعلانات اللفظية المتوعدة لن تكون لها ترجمه حقيقية على الأرض. والحال أن بريطانيا تتحمل المسؤولية الأولى والأهم في الكارثة الفلسطينية، ويجب أن تتحمل المسؤولية الأكبر والأهم في وضع حد لها. وفي عالم القرن الحادي والعشرين حيث صار لعولمة الاتصالات وعولمة الإعلام وعولمة القيم الإنسانية مكان جوهري في قلب التسيس العالمي ما عاد بإمكان أي سياسة مترددة أو جبانة أو منافقة أن تفلت بما كانت تفلت به سابقاً. وعندما تواطأت بريطانيا مع المشروع الصهيوني في أواخر الأربعينيات ونتج عنه طرد وتهجير نصف الشعب الفلسطيني آنذاك، لم يكن هناك إعلام فضائي وإنترنتي يصور عمق الجريمة واتساعها لحظة بلحظة. وبعدها بسنوات صرح أحد الرؤساء الأميركيين "من أين جاء هؤلاء الذين يُسمون فلسطينيين". إذ لم يكن يراهم أو يسمع بهم. وفي حرب غزة الأخيرة، والتي لا تُقارن بكارثة النكبة، قام العالم كله ولم يقعد. ولذا فلم يعد هناك مجال لتمرير مزيد من الجرائم والمظالم. وهذه هي البوصلة التي يجب على السياسة البريطانية أو أي سياسة غربية جديدة أن تضعها نصب عينيها.