نشر عالم الفلك الجزائري البارز "نضال قسوم" مؤخراً كتاباً نادراً يستحق الترجمة للعربية بعنوان"التوفيق بين الإسلام والعلم الحديث: روح ابن رشد". وكما لا يخفى من العنوان، يتناول الكتاب بالدراسة الدقيقة والتحليل المسهب الإشكالات التي تطرحها التفسيرات العلمية الجديدة للقرآن الكريم التي انتشرت على نطاق واسع في الأدبيات العربية، وأصبح لها مختصوها وأقسامها في الجامعات ومراكزها البحثية ومواقعها الإلكترونية الكثيرة. وما يريد أن يوضحه قسوم من خلال ثقافته العلمية الرفيعة، هو أن مثل هذه التفسيرات تسيء إلى الدين الحنيف وإلى العلم، لأنها تقوم على مغالطة واهية هي اعتبار القران الكريم كتاباً في العلوم التجريبية، في حين أنه كتابُ هداية وإرشاد وتوجيه للنظر العقلي في آيات الكون، ومن هنا تشجيعه للبحث الموضوعي الدقيق بدل أن يكون مصنفاً في المعارف التجريبية المتقلبة النسبية. ويرجع المؤلف إلى نظرية التأويل "الرشدية"، التي تقوم على فكرة وحدة الحقيقة واختلاف التعبير عنها بين علوم النص وعلوم الطبيعة، معتبراً أنها تؤسس لعلاقة تكاملية مقبولة وخصبة بين الدين والعلم. استوقفني في هذا الباب مقال مهم للصديق يوسف الصمعان في صحيفة"الاتحاد" ذهب في المنحى نفسه، مما يعبر عن وعي دقيق لدى علمائنا بضرورة مراجعة أطروحة الإعجاز العلمي السائدة على نطاق واسع في الكتابات الإسلامية. ولا شك أن الخلفية المؤطرة لهذه الأطروحة تتكون من عناصر ثلاثة نشير إليها باقتضاب: أولها: تأويل خاطئ لشمولية النص المحكم، الذي لئن كان بالفعل تعرض للوجود الإنساني وتفسير نشأة الكون وضوابط السلوك الأخلاقي وأحكام العبادة، إلا إنه لم يفصل القول في فروع الدين، فكيف بالمعارف الوضعية التجريبية التي ليست من تكاليف الشرع ولا أحكامه. ثانيها:تصور وضعي ضمني يتأسس على افتراض احتكار العلم التجريبي للمعقولية وللحقيقة. والمفارقة البادية للعيان، هي أن هذا التصور تشكل لدى الفلسفات الوضعية الرافضة للدين والساعية إلى استبداله بالعلم التجريبي، بل إن فيلسوف الوضعية الأكبر"أوجست كونت" سعى إلى بناء ديانة وضعية لها شريعتها وطقوسها لتعويض الديانات السماوية التي اعتبرها تناسب المرحلة الميتافيزيقية من تطور العقل البشري، في حين يعبر العلم التجريبي عن المرحلة الوضعية، التي هي أعلى محطات نمو العقل الإنساني. ولقد نفذت هذه المصادرة الوضعية إلى المخيال الجماعي المشترك وأصبحت تشكل مسلمة لا تقبل الاعتراض أو الجدل. ثالثا:التمييز السائد بين علوم الطبيعة التي يفترض فيها الحياد القيمي والموضوعية والعلوم الإنسانية التي تعكس رؤية حضارية وقيمية مرفوضة من منطلق الخصوصية الإسلامية. ولهذه الرؤية مستويان: يتعلق أحدهما بفكرة الاستيعاب الانتقائي للحداثة باستيراد جانبها العلمي -التقني ونبذ جانبها الثقافي -الفكري، ويتعلق ثانيهما بتأسيس مرجعية حضارية خصوصية للدراسات الإنسانية بالمقاييس العلمية ذاتها. وإذا كانت الأطروحة الأولى قديمة ترجع إلى بواكير عصر النهضة العربية (منذ الطهطاوي وخير الدين التونسي والإمامين الأفغاني ومحمد عبده)، فإن الأطروحة الثانية جديدة نسبياً، وقد تجسدت عملياً في برنامج معهد الفكر الإسلامي بواشنطن ومشروعه الطموح "لأسلمة المعرفة". هذه الخلفية الثلاثية تطرح نمطين من الإشكالات: إشكالات عقدية وشرعية لا نطيل فيها مكانها في المباحث الكلامية والفقهية، وإشكالات نظرية ابستمولوجية تستدعي وقفة تنبيه وتحليل. فبخصوص النمط الأول، نكتفي بالتذكير أن المذاهب الكلامية الوسيطة تبنت تصورات بديلة من العلوم اليونانية -الفارسية القديمة التي حافظ عليها الفلاسفة. وتقوم هذه التصورات المتولدة عن التفكير في مباحث الخلق والصفات والعلم على نزعة ذرية تجريبية تبطل العائق الأبستمولوجي الأبرز، الذي حال دون قيام العلوم التجريبيبة الحديثة، وهو النزعة الغائية الحيوية للطبيعة، التي أبطلتها الفيزياء الحديثة وقامت على أنقاضها. ويتفق كبار مؤرخي العلم كالكسندر كويري ورشدي راشد....على أن إسهام علماء الإسلام الأهم هو تهيئة الشروط الأبستمولوجية الضرورية للثورة العلمية الحديثة بنقد وتقويض فيزياء الجوهر والأعراض القديمة واستبدالها بالنظرة الاستكشافية التجريبية التي لم تصل طبعاً إلى فكرة "غزو الطبيعة عن طريق الرياضيات المطبقة"، والتي كانت الخلفية الفلسفية للعلوم الحديثة. ولا زلنا نحتاج إلى دراسات دقيقة حول علاقة التصورات الكلامية للموجودات ومذاهب التأويل الأصولية من سبر وتقسيم وتحقيق مناط بالعدة المنهجية التي استخدمها علماء الطبيعة المسلمون في العصور الوسيطة، بدل لي عنق الآيات الكريمة والتعسف في تفسيرها في اتجاه النظريات والاكتشافات الجديدة. أما النمط الثاني من الإشكالات، فيتعلق بما يسميه مؤرخ العلم الفرنسي المعروف جورج كانجلام بأيديولوجيا العلم أي النظر إليه كإطار أوحد للمعقولية وللحقيقة دون التفكير المعمق في طبيعة الخطاب العلمي وعلاقته بالنسق المعرفي الأوسع. ومن دون الخوض في تفاصيل الدراسات الأبستمولوجية الراهنة، نكتفي بالملاحظة أنها تسير في الغالب في مراجعة الأطروحة الوضعية السائدة التي تتلخص في فكرة"التحقق التجريبي" معياراً لصحة المعارف من منطلق كون العلم هو مفتاح قراءة كتاب الكون لضبط قوانين سيره. فما بينته المباحث الابستمولوجية النقدية من "باشلار" إلى "كارل بوبر"و "بريجوجين" هو أن معيار العلومية ليس الحقيقة بل الإجرائية والنجاعة، وإن القوانين العلمية ليست اكتشافات لقوانين الطبيعة (التي لا دليل على وجودها، فالأمر كله افتراض نظري خصب)، بل هي تركيبات منطقية -رياضية مبنية لها مجال صلاحيتها المحدود بإطارها التجريبي المتغير. فالعلم التجريبي يقوم على الحركية والتحول ويتسم بالقابلية للتفنيد والخطأ لا الدليل العقلي القطعي. وليس من الصحيح أن التقنية هي نتاج تطبيقي للعلوم التجريبية كما يُظن عادة، بل هي الروح النظرية للعلوم وخلفيتها الميتافيزيقية حسب تعبير الفيلسوف الألماني الكبير هايدجر. ولذا فإن مشروع استنبات العلوم التجريبية واستيراد التقنية خارج السياق الثقافي المرجعي للحداثة أمر إشكالي غير بديهي على عكس ما يتوهم دعاة الاستيعاب الانتقائي. كما أن مشروع أسلمة العلوم الإنسانية (التي هي علوم تأويلية تاريخية لها خصوصياتها الأبستمولوجية) يعكس المأزق نفسه: المصادرة الوضعية بآثارها الأيديولوجية العقيمة. وحاصل الأمر، أن أطروحة الإعجاز العلمي التي لها إغراؤها الواسع في الخطاب الإسلامي الرائج، تعكس مقاربة وضعية ملتبسة. وإن صدرت عن هاجس الخصوصية الثقافية وحرص الدفاع عن قدسية القرآن الكريم وتبيان إعجازه.