مرة أخرى تقض إيران مضاجعنا وتبادر لرفع مؤشر التوتر في منطقتنا بالتهجم هذه المرة على مملكة البحرين، وذلك للمرة الثانية خلال عام واحد. ويبدو التصعيد الحالي الموجه ضد البحرين جزءاً من استراتيجية ونهج إيراني يستهدفان دولنا العربية عموماً، وبشكل فج لا يمكن تبريره تحت أية مسوغات. فمن إعلان إيراني باللغة الفارسية يُطالب باغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، إلى تهجم الرئيس الإيراني على الأنظمة العربية والمزايدة عليها في قضية العرب الأولى. ومن الاستمرار في تخصيب اليورانيوم ودفع المنطقة إلى حافة هاوية المجهول، إلى قعقعة المناورات المتكررة وتجريب الصواريخ المتطورة والتهديد بإغلاق مضيق هرمز بشكل متواتر، وصولاً إلى الدور الإيراني غير الإيجابي في العراق، والإطلاق الاستعراضي لقمر اصطناعي في احتفالات طهران بذكرى ثورتها الثلاثينية. وكل هذه المواقف والمظاهر والمساعي الإيرانية غير الواضحة باتت علامة فارقة في العلاقة بينها وبين جوارها العربي في الطرف الآخر من الخليج، حيث تبادل طهران المواقف الخليجية المعتدلة والداعمة لها، في كل مرة، بمواقف استفزازية غير مناسبة، بكل المقاييس. وحتى في مزاعمها السعي لامتلاك تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية ذهب بعض المسؤولين الخليجيين إلى حد التأكيد على سلمية برنامج إيران النووي معلنين في عز الهجوم الأميركي على إيران خلال إدارة بوش أن دول مجلس التعاون، فرادى ومجتمعة، ترفض، بشكل قاطع، استخدام أراضيها لتوجيه أي عمل عسكري يستهدف إيران. ومع ذلك تستمر طهران في إيقاظ هواجسنا، وفي تحدي مشاعرنا، دون أدنى مبرر، وبلا أية مناسبة. وقد كتبت في هذه الصفحة في شهر أغسطس الماضي مقالة بعنوان: "استفزازات إيران... متى تنتهي؟"، بعد أن وصل التطاول الإيراني مستوى لم يعد مقبولاً ضد شعوب دول مجلس التعاون الخليجي. وقد جاء ذلك عقب تصريحات ومواقف إيرانية مستفزة تتعرض لنا بالتهجم والاستفزاز، وتطعن في شرعية وبقاء دولنا الخليجية، وصولاً إلى التشكيك في شرعية أنظمة دول المجلس واستمرارها. وهذا ما صدر حينها عن مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون البحوث والدراسات منوشهر محمدي. وهي تصريحات وصفها، عن حق، أمين عام مجلس التعاون الخليجي عبدالرحمن العطية في حينها بالعدائية والمشبوهة والمخيبة للآمال، وغير المسؤولة والسافرة. كما طالب إيران بتقديم توضيح فوري عما جاء على لسان مساعد وزير خارجيتها، قبل أن يتراجع هذا الأخير بسبب موجة الغضب الخليجي ملقياً باللائمة على وسائل الإعلام، مدعياً أنها أخطأت في تفسير كلمته! قائلاً إن السياسة الإيرانية قائمة على احترام سيادة الدول المجاورة على أراضيها، واحترام حكوماتها، وتوثيق العلاقات معها. وتتكرر اليوم، للمفارقة، ذات المواقف المستفزة التي باتت علامة إيرانية مسجلة ضد دولنا، من خلال حديث غير مسؤول عن مملكة البحرين، وعن الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران. وتكرار المشهد ذاته والمواقف الإيرانية الاستفزازية، بهذه الكيفية والوتيرة، يظهر أن طهران قد أدمنت فعلاً التهجم علينا وفق لعبة توزيع أدوار بين الفرقاء الحاكمين، والآن توازياً مع التسخين لانتخابات الرئاسة الإيرانية في يونيو القادم. إن الطعن والتعدي على شرعية وعروبة البحرين لا يمكن السكوت عليه أبداً، وتكرار المواقف الإيرانية المتنصلة من أن هذه التصريحات لا تمثل الموقف الرسمي الذي أدمن على ما يبدو مبادلة اللطف والدبلوماسية الخليجية بالاستفزاز، موقف غير كاف وحده. ودولنا التي ترتبط بعلاقات ودية من الناحية الثنائية والمشتركة مع إيران، لم يعد مقبولاً أن تواجه باستمرار مثل هذه المواقف غير المسؤولة من طرف إيران. لأن مثل هذه الاستفزازات بالتأكيد هو آخر ما يمكن أن يطمئن هواجسنا من نوايا ملالي طهران. ولذا كان رد الفعل الخليجي غاضباً هذه المرة، وكان طبيعياً ومشروعاً أن تعلو الأصوات الخليجية والعربية ويتقاطر قادة دول عربية إلى المنامة، ويتصل بعضهم الآخر متضامناً ومستنكراً التصريحات الإيرانية التي دفعت البحرين إلى الرد بتعليق مفاوضات الغاز. كما أدت إلى صدور توجيهات بحرينية للجهات الأمنية المسؤولة عن الحدود البحرية بمنع دخول أية سفينة تجارية إيرانية إلى المياه البحرينية حتى إشعار آخر، رداً على القنبلة التي فجرها علي أكبر ناطق نوري رئيس التفتيش العام في مكتب مرشد الثورة علي خامنئي بزعمه "أن البحرين جزء من إيران"! وفي موقف خليجي لافت إذا ما صدقت أنباؤه، كشف دبلوماسي خليجي في الأمم المتحدة بنيويورك أن دول مجلس التعاون الخليجية الست "قد تفاجئ العالم قريباً جداً بإعلان تجميد العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية والأمنية مع إيران". وهذا احتمال وارد ومنطقي تماماً، لأن هذه المواقف والتصريحات الإيرانية المستفزة، والتناقض في المواقف، وإصدار التصريحات ونفيها ثم إصدار تصريحات مضادة، كل ذلك بات علامة إيرانية مسجلة لابد أن ترفع من مؤشر التوتر في المنطقة، وبالتأكيد لا تُساهم في بناء الثقة المفقودة والمطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بين ضفتي الخليج العربي. وكأنَّه بات من قدرنا أن يبقى أمننا مرتهناً بما يصدر من استفزازات عن ساسة وحُكام إيران بسياساتهم وحساباتهم الخاطئة، ومواقفهم المستفزة التي يندرج فيها أيضاً، وباستمرار، تصعيد جيواستراتيجي إيراني آخر يعبر عنه تهديد قائد الحرس الثوري الإيراني من حين لآخر بإغلاق مضيق هرمز، والتلويح بسهولة تلك المهمة. وهو تصريح يثير قلقنا في دول مجلس التعاون الخليجي حقاً، على رغم أنه تهديد إيراني تكرر بشكل ملفت مؤخراً، وإن كانت طهران تناور به كورقة لتصعيب احتمال العمل العسكري ضدها. وقد رد وزير الخارجية الكويتي على مثل ذلك الكلام غير المسؤول بقوله: "إن هذه البحيرة (الخليج) نشترك فيها جميعاً، والكلام عن إغلاق مضيق هرمز يؤثر علينا بشكل كبير. ليس الإغلاق وحده. وإنما مجرد الحديث عن الإغلاق يخلق حالة من التوتر، وسيرتفع التأمين المفروض على السفن العابرة في هذا المضيق". وفي المجمل فإن جميع تلك التصريحات والتهديدات الإيرانية مستهجنة ومرفوضة. وعلى إيران أن تعلم أن مناصبة دول مجلس التعاون الخليجي العداء ومواصلة الاستفزاز، حتى لو كان ذلك عن طريق لعبة ماكرة من توزيع الأدوار بين معتدلي طهران ومتشدديها، والتشكيك في شرعية وديمومة الأنظمة في دول الخليج العربية، والتعدي على سيادة واستقلال كياناتنا ودولنا، كل ذلك أمر مرفوض ولا يمكن السكوت عنه، وصورة إيران ومصالحها لا يمكن أن تخرج منه معززة، أو دون خسائر. ومن ناحيتنا كخليجيين، وكعرب، علينا أن نكون لاعباً مؤثراً في معادلة الأمن الخليجي. وألا يبقى أمننا مرتهناً بما تقرره القوى الخارجية، أو أهواء حُكام إيران بسياساتهم ومواقفهم المستفزة والمهددة لأمننا واستقرارنا، وحساباتهم الخاطئة في مقاربتهم للعلاقات معنا، ومع غيرنا. وعلى إيران أن تعي أن ملفها النووي وتهديدها بإغلاق مضيق هرمز، وتشكيكها بشرعية وديمومة أنظمتنا، ودورها غير البناء في العراق، وتغلغلها وإقحامها لنفسها في القضايا الداخلية لدولنا العربية، كل ذلك لن يزرع الأمن ولن يؤسس لعلاقة مبنية على الثقة. ولذا فإن عليها التوقف عن الاستفزاز والسعي، بدلاً من ذلك، لتعزيز علاقات الجوار الإيجابي والبناء. وحتى لا نعود بعد أشهر مرة أخرى إلى ذات الحلقة المفرغة من الاستفزازات الإيرانية لنكتب ذات السؤال المعلق: "استفزازات إيران... متى تنتهي؟".