للحروب الإسرائيلية أكثر من وجه وأكثر من ساحة؛ فهي تدور على هيئات وبكيفيات مختلفة، وإن لم تتغير وجوه رجالها ونسائها منذ أعوام. فقد جرت حرب طاحنة على زعامة "كاديما"، انتهت بسقوط أولمرت وصعود ليفني التي أخفقت في معركة تشكيل الحكومة، لتفتح حرب "الرصاص المسكوب" على قطاع غزة! أما انتخابات الكنيست الأخيرة، يوم العاشر من الشهر الجاري، فكانت حلقة أخرى في سلسلة الحروب الإسرائيلية غير المحسومة، فقد وضعت "الليكود" في المرتبة الثانية، بفارق مقعد واحد مع "كاديما" المتصدر، ليتم تكليف زعيمه بنيامين نتانياهو، الجمعة الفائت، بتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة. وقد حاول الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز إقناع ليفني ونتانياهو بتأليف حكومة وحدة، لكن زعيمة "كاديما" فضلت، بدلا من ذلك، الانضمام للمعارضة، وليتضح أن نتانياهو هو الأقدر على تلك المهمة، لاسيما بعد نيله دعم "إسرائيل بيتنا" وقوى يمينية متطرفة أخرى. فماذا عن قدرات نتانياهو، وقد سبق أن ترأس حكومة إسرائيلية لم تعمر طويلا، على إدارة ما بعد التشكيل الوزاري؟ وعلى أي نحو سيكون مختلفاً عن غيره من قادة إسرائيل في موقفه من الشعب الفلسطيني؟ ومن هو نتانياهو ذاته، السياسي والزعيم الحزبي الإسرائيلي؟ يعتبر نتانياهو أول قائد لليمين الصهيوني يصل منصب رئيس الوزراء على خلفيةٍ واسعة من الشبهات ومواقف التحفظ والرفض إزاءه، إذ كثيراً ما اتهمه حلفاؤه ورفاقه بالكذب والخداع والخيانة والوحشية والتطرف. وقد ورث صفة التطرف اليميني عن والده الذي كان مؤرخاً وأستاذاً جامعياً متفانياً في خدمة المشروع الصهيوني. فقد ولد بنيامين نتانياهو في تل آبيب عام 1949، لكنه عاش طفولته في الولايات المتحدة حيث كان والداه يعملان، وعاد منها لأداء الخدمة العسكرية عام 1967 فالتحق بوحدة الاستطلاع. ثم عاد إلى أميركا، وهناك حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة "أم، آي، تي"، وبعدها على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من نفس الجامعة. وسافر خلال دراسته إلى فلسطين للمشاركة في حرب أكتوبر 1973، قبل أن يتولى عدة وظائف في شركات أميركية وإسرائيلية. بيد أنه عاد عام 1978، إلى تل آبيب وأسس معهد "يونتان لدراسة الإرهاب"، والذي حمل اسم شقيقه الأكبر، أحد قتلى عملية اقتحام الطائرة الإسرائيلية المخطوفة في مدينة "عنتيبي" الأوغندية. وبين عامي 1982 و1984 عُين قنصلا عاماً لإسرائيل في واشنطن، ثم سفيراً لها في الأمم المتحدة حتى عام 1988، وخلال تلك الفترة أودع وثائق وملفات كثيرة حول جرائم النازية ضد اليهود في محفوظات المنظمة الدولية، مما ساعده على الفوز في انتخابات الكنيست عام 1988، نائباً عن "الليكود"، ليتم تعيينه نائباً لوزير الخارجية موشيه أرينس، ثم نائباً لوزير في مكتب رئيس الحكومة، حيث كان الناطق الرسمي باسم الوفد الإسرائيلي في مؤتمر مدريد عام 1991. وفي عام 1996 تمكن نتانياهو من الفوز برئاسة "الليكود"، وبعيد الانتخابات التشريعية التي جرت في ذلك العام، استطاع ضم الأحزاب الدينية الصغيرة المتطرفة إلى تحالف تزعمه "الليكود"، فاقتصرت المنافسة حول منصب رئيس الحكومة بينه وبين بيريس، ليصبح تاسع رئيس وزراء إسرائيلي وأصغر شخص يتولى ذلك المنصب في تاريخ الدولة العبرية. فاهتم بزيادة توسيع المستوطنات وزيادة عددها، وبتقديم الدعم المالي للمهاجرين اليهود الروس، كما حافظ على تشدده إزاء الفلسطينيين والعرب. لكن عهده اتصف بأزمة متعددة الأوجه؛ فقد استمر في بناء نفق السور الغربي للمسجد الأقصى مما أشعل احتجاجات فلسطينية قوية سقط جراءها عشرات القتلى والجرحى، وعمل على عرقلة مباحثات "واي ريفر" مع الرئيس الراحل ياسر عرفات. ومن الأسباب التي أسقطت حكومة نتانياهو، في مايو 1999، خلافه مع رئيس الإدارة الأميركية بيل كلينتون الذي اعتبر "واي ريفر" مشروعه الشخصي، وتأييد الجالية اليهودية في أميركا لمنافسه العمالي باراك، فضلا عن فتور العلاقات الإسرائيلية -الأوروبية آنذاك! وقد صوت الكنيست على سحب الثقة من حكومته والدعوة لانتخابات مبكرة في منتصف 1999، سيخسرها أمام منافسه باراك، معلناً اعتزال العمل السياسي مؤقتاً، لكن بداية من عام 2001 أصبح نتانياهو منافساً أساسياً لشارون على زعامة "الليكود". فقد خرج وزراء "العمل" من الإئتلاف الحزبي الحاكم بزعامة "الليكود"، فقام شارون بتعيين نتانياهو وزيراً للخارجية، لكن المنافسة بينهما استمرت ولم تتوقف باستقالة الأخير من الحكومة في أغسطس 2005 محتجاً على خطة الخروج من قطاع غزة. أما الفصل الختامي من ذلك الصراع، فكان انسحاب شارون من حزب "الليكود" ليؤسس "كاديما"، بينما أدت الانتخابات الداخلية في "الليكود" إلى فوز نتانياهو برئاسة الحزب للمرة الثانية. وقد مثلت مشاركة "الليكود"، برئاسة نتانياهو، في انتخابات عام 2006، أسوأ أداء للحزب في تاريخه. لكن نتائجه في الانتخابات الأخيرة، ربما تذكر بالفوز الذي حققه لأول مرة عام 1977، تحت رئاسة بيجن، وبعد نصف قرن من سيطرة اليسار الصهيوني على الحياة السياسية الإسرائيلية. ويثير صعود نتانياهو مجدداً مخاوف الجانب الفلسطيني، بسبب مواقفه المناهضة لفكرة الدولتين، وتطرفه الزائد في استخدام القوة العسكرية وتوسيع الاستيطان. فهو يطرح، بدلاً من إقامة دولة فلسطينية، فكرة "سلام اقتصادي" يستند إلى تحسين الوضع الاقتصادي في الضفة دون الانسحاب منها، وهي عملياً ذات السياسة التي اعتمدتها الحكومة الآفلة، والأرجح أن أي حكومة أخرى كانت ستواصلها. وكذلك توسيع الاستيطان الذي لم يتوقف تحت أي حكومة. أما سياسة القوة الباطشة، فلم تترك فيها ليفني وأولمرت وباراك، فعلا لفاعل، خاصة في قطاع غزة المحاصر والمدمر. ورغم مواقفه المتطرفة والعدوانية، فقد وقّع نتانياهو خلال أيام حكومته الأولى على اتفاق الانسحاب من الخليل ومن 13% من أراضي الضفة، كما أطلق سراح مؤسس حركة "حماس" الشيخ أحمد ياسين، وهما اختراقان يناقضان تماماً سياق مواقفه العامة، وقد يناقض سياق مواقفه العدوانية هذه المرة أيضاً! محمد ولد المنى